الطائرات الأميركية تحلق بشكل مكثف فوق السفارة الأميركية في كابول لتأمين نقل الأميركيين، جنودًا ودبلوماسيين وأعوانًا ومتعاملين أفغانًا، في مشهد مشابه لما حصل في سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية عام 1975. في الوقت نفسه، تدخل طالبان إلى كابول ويهرب رئيس الحكومة الأفغاني وتنهار قوات الحكومة وشرطتها، ويدخل قادة من طالبان إلى القصر الرئاسي، في مشهد مؤثر يسدل الستار على حقبة طويلة من حروب الولايات المتحدة الفاشلة، التي انفردت بقيادة العالم لعقود طويلة، حتى تبين لها عدم قدرتها على الاستمرار وحيدة في السيطرة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، في ظل صعود متسارع للعملاق الصيني المتحالف مع روسيا في مواجهة تبدو قادمة لا محالة، ولكن ليس بالأساليب الكلاسيكية السابقة.

الصين وروسيا لا تدخلان في سباق التسلح الذي أنهك الاتحاد السوفيتي طيلة حقبة الحرب الباردة وأدى إلى تفكك هذا الاتحاد وانهياره، كلاهما يراقبان سلوك الولايات المتحدة ويردان بهدوء وثقة، اقتصاديًا لا يلتفتان إلى عقوبات الولايات المتحدة ويلتفان حولها ويبطلان مفعولها بتحالفات دولية حتى مع دول أوروبية حليفة للولايات المتحدة، ويعززان علاقاتهما مع الدول التي تطالها عقوبات الولايات المتحدة.
وعسكريًا، يتربصان بتحركات الولايات المتحدة وإنتاجها من الأسلحة، ويركزان على إنتاج أسلحة مضادة قليلة التكلفة تجعل الترسانة العسكرية الأميركية في خطر أكيد غير قادرة على تحقيق انتصارات حاسمة، خاصة إذا كانت المواجهة مشتركة، فصحيح أن الجيش الأميركي هو الأقوى عالميًا، لكن الجيش الروسي يأتي ثانيًا والصيني ثالثًا، وها هما يوجهان رسالة تحذيرية للولايات المتحدة من خلال الإعلان عن تدريبات مشتركة للجيشين الروسي والصيني، بدأت في 9 آب 2021 تحمل اسم "التفاعل 2021"، وتهدف التدريبات إلى تطوير علاقات الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي بين روسيا والصين، وتشمل تشكيل هيئة قيادة مشتركة تشرف على عمليات القيادة والسيطرة وعمليات الاستطلاع والاشتباك مع العدو، إضافة إلى أمن المعلومات، كما أعلن البلدان.
إذن خطة الولايات المتحدة في تجميع قوتها استعدادا لمواجهة منفردة مع الصين تفشل، وتسقط هيبتها الدولية في السقوط المدوي في أفغانستان، واضطرارها للانسحاب من ميادين القتال في أكثر من مكان في العالم، خاصة من العراق وسوريا وليبيا، ما يثير مخاوف حقيقية لدى حلفاء الولايات المتحدة في أنحاء العالم كافة، فسجل تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها حافل، بدءًا بخذلان شاه إيران، مرورًا بفيتنام وكوريا والصومال ولبنان، وصولاً إلى اليوم في افغانستان، مخلفة وراءها دائمًا الفوضى والخراب والدمار الشامل الذي يحتاج التعامل مع تبعاته إلى سنوات طويلة وكلف مالية عالية وعدم استقرار اجتماعي وسياسي، بل حروب محلية لا تبقي ولا تذر في ظل سخرية من أهدافها المعلنة لحروبها حماية الديمقراطية والليبرالية، فما تحقق فقط خراب ودمار.
هذا الانهيار المتسارع في دور الولايات المتحدة في العالم يثير الرعب لدى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، فها هي تترك عدوتها المفترضة إيران تطبق على العراق ولبنان واليمن وتهدد أمن كل دول الخليج، وتترك لروسيا والصين الدور المؤثر في سوريا وليبيا وصولاً إلى علاقات قوية وتقاسم أدوار مع تركيا، فبدل أن تأخذ هذه الدول العبرة، تهرع لإنشاء علاقات أمنية واقتصادية مع قاعدة أميركا القوية في المنطقة إسرائيل، ظنًا منها أن الأخيرة قادرة على حمايتها، وربما يكون هذا وهما، فضعف الولايات المتحدة سينعكس حتمًا على إسرائيل، التي تعاني كثيرًا من أزماتها الداخلية ومن تهديد وجودي في إقليم يرفضها، وتستقوي فقط على الفلسطينيين، تمارس عليهم أبشع أنواع التمييز وتترك المستوطنين يعيثون في الأرض فسادًا منظمًا محميًا بجحافل جنود أصبح مجدهم يتحقق بقتل منظم ومتعمد للفلسطينيين، ومن غير المؤكد أنهم قادرون على تحقيق مجد عسكري محسوم في مواجهات عسكرية جادة في المستقبل.
في ظل هذه الأحوال، لا يبقى للفلسطينيين إلا لملمة صفوفهم، والتوحد في مواجهة شاملة، هي وحدها القادرة على وضع حد للغطرسة الإسرائيلية، والسير قدمًا على طريق هزيمة الاحتلال وتحقيق الأمل الفلسطيني في إقامة دولة فلسطين وتقرير المصير، بدعم عربي يستفيق بالتدريج من وهم حماية إسرائيل والولايات المتحدة، السقوط المدوي للولايات المتحدة في أفغانستان، عبرة لنا في هذه المنطقة، فلا أحد يستطيع أن يتنبأ بسلوك طالبان في أفغانستان، كما لا يستطيع أحد أن يتبأ بمستقبل المنطقة، وفلسطين، إذا استمر الانقسام بين الدول العربية والفصائل الفلسطينية، لأن المشروع الصهيوني يستهدف الجميع.