منذ الإرهاصات الأولى لتأسيس وانطلاق حركة "فتح" على يد مؤسسيها الأوائل في الخمسينيات من القرن الماضي، كان الوعي مكتملًا بأن فتح يجب أن تكون النموذج الذي يشبه شعبها وليس شيئًا آخر، ونعلم جميعًا الآن أن "فتح" ولدت وسط ديكتاتورية الأيديولوجيا التي كانت مسيطرة في الوطن العربي. وقد خلقت المأساة الفلسطينية منذ نشوئها العديد من الأسئلة المعقدة، وكانت ديكتاتورية الأيديولوجيا تعطي لهذه الأسئلة الصعبة أجوبة معلبة سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع، فقد كانت التكوينات الإسلامية في طريقها للتسيد، الحل لكل قضية مهما كانت صعبة هو العودة إلى الإسلام الصحيح، دواء بسيط أشبه بأقراص عسر الهضم!! وكان اليسار في أطواره العليا الشامخة (يا عمال العالم اتحدوا). وكانت الأحزاب القوية مثل البعث، وأحزاب القومية العربية في قمة تسيدها للمشهد، لكن دون فعل حقيقي سوى كراهية بعضها، لكنّ "فتح" لم تنتظر على الأبواب، بل طرحت فكرتها بانها ستشكل على هيئة شعبها الفلسطيني وليس على أي هيئة أخرى. وفي العام 1955 كانت إسرائيل تتهيأ للاشتراك في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مع بريطانيا وفرنسا، احتلت إسرائيل قطاع غزة ووجدت في ذلك الوقت المبكر حضورًا للمقاومة الشعبية، كان فدائيو مصطفى حافظ قد أسسسوا تجربة مدهشة وكان من الصعب تجاهله لأنه في الأصل كان ذا عمق فلسطيني بل إن أجهزة "الأمن" العسكرية الإسرائيلية أعلنت في ذلك الوقت أن مجموع الأحداث "الأمنية" التي نفذها الفلسطينيون منذ عام 1948 حتى 1956 بلغت أحد عشر ألفًا وخمسمائة وستة وعشرين حادثا، أحداث على عاتق الفلسطينيين أنفسهم، بارودة قوية وكمشة رصاص ولكن اسم فلسطين لم يغب في أصعب الظروف، رغم أن العالم العربي في ذلك الوقت كان يتنافس فيما بينه على من يأخذ من الضحية "شلوا" أكبر!!

وفي هذا السياق، بعد هزيمة عام 1967، قال موشيه دايان وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك "إن فتح كالبيضة في يدي، أستطيع أن أكسرها متى أشاء". ولكن بعد قرابة تسعة أشهر على الهزيمة أي في معركة الكرامة، كسرت "فتح" وجهه وجعلت هذا الذي كان ينظر إليه كأيقونة إسرائيلية تتحول إلى شظايا تافهة.

يوم الاثنين الماضي، عقدت اللجنة المركزية لحركة فتح اجتماعًا برئاسة رئيسنا ورأس شرعيتنا الوطنية الأخ الرئيس أبو مازن– وقد ثمنت مجددًا قرار الجنايات الدولية للتحقيق بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين، كما جددت دعوتها إلى الشرعية الدولية بضرورة عقد المؤتمر الدولى للسلام الذي دعا إليه رئيسنا، وأكدت قرارها بأنها ستخوض الانتخابات التشريعية القادمة بقائمة واحدة موحدة، وفي حال فوزها طمأنت الجميع أنها ستشكل حكومة وحدة وطنية، طبعًا لقد نفت بما يقطع دابر الشك، أن فتح وحدها هي المهيأة تماما لممارسة وصياغة الوحدة الوطنية، ودون أن تكون فتح في موقع القيادة فإننا في هذا الوضع الصعب والمتداخل في المنطقة سرعان ما تتحول إلى نموذج محزن للأبواق المجانية والشظايا المتنافرة.

يا أيها الفتحاويون، لقد خلقتم منذ البداية لتحملوا العبء وهم المصير. ويا أيها الفلسطينيون، لا تصدقوا سوى عقولكم وقلوبكم، وأذكركم بأنه منذ انطلقت "فتح" وأطلقت معها الثورة الفلسطينية المعاصرة، والأعداء والمنافسون يبحثون لها عن معاني مغايرة، ولكنهم لم يجدوا لفتح سوى معنى واحد وهو فلسطين ولا شيء سوى فلسطين.