الهزائم الاستراتيجية للقوى والمنظمات والجيوش والدول لا تتم بضربة واحدة، وإن حدث ذلك يكون نتاج خلل وأزمة عضوية في الطرف المهزوم، بيّد أن صيرورة عمليات الصراع تأخذ خطوطًا بيانية متصاعدة أو هابطة ارتباطًا بالعوامل الذاتية والموضوعية، وعليه فإن هزيمة الأشخاص أو القوى أو الدول تبدأ بتراجع وهزائم صغيرة ومتناثرة على أكثر من جبهة ومستوى ما يراكم الخسائر الكمية كمقدمات للتحولات الكيفية، وسقوط كامل لصرح ومكانة الجهة المستهدفة.
وغالبًا في الصراعات بين القوى المتنافسة والمتصارعة في أي حقل أو مجال يكون لهزيمة شخص ما ثقل وأثر هام في معادلة الصراع، لما يمثله في الفريق الذي يقف على رأسه، أو يكون جزءا منه، وأيضًا لوزنه في معادلة الصراع الدائرة بين القوى ذات الصلة بالصراع المحدد. لما ذكر صلة عميقة بما جرى يوم الأربعاء الماضي مع هزيمة النائب الأميركي الصهيوني، إليوت إنجل، أحد أهم أعمدة " الإيباك" في مدينة نيويورك أمام منافسه الديمقراطي، جمال بومان، وهو مدير مدرسة سابق.
وهزيمة إنجل ليست عادية في المشهد السياسي والتشريعي الأميركي، فالرجل تربع في مقعده النيابي لمدة ثلاثة عقود، ولعب دورًا خطيرًا في دعم وإسناد دولة الاستعمار الإسرائيلية، واستخدم نفوذه في تمرير سياسات "مجلس العلاقات الإسرائيلية الأميركية" (الإيباك)، وقام بتبني وتمرير العشرات من مشاريع القوانين والقرارات ذات الصلة بالدعم الأميركي للدولة الاستعمارية. هذا وعمل إليوت في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب من عام 2013 إلى عام 2019، وتبوأ موقع الرئيس فيها خلال العامين الماضيين، وبالمقابل كان له باع طويل في تشريع القوانين والقرارات المعادية لمصالح وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، حتى المتعلقة بحقوق الطفل الفلسطيني.
ويعمق أهمية الهزيمة، أنها تتلازم مع التقاعد المتوقع للنائبة الصهيونية، نيتا لوي، التي قادت داخل الحزب الديمقراطي خلية صناعة السياسات الديمقراطية الموالية لدولة إسرائيل الاستعمارية، بحكم تبوئها رئاسة لجنة الاعتمادات من أجل ضمان التمويل العسكري الأميركي السنوي للدولة المارقة والخارجة على القانون. وبالتالي فالهزيمة تصبح هزيمتين مركبتين، وهي تساهم في تحرير سياسات الحزب الديمقراطي أكثر فأكثر تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كونها تفتح الأبواب أمام المشرع الديمقراطي للاقتراب من روح العدالة الأممية، وترتقي إلى مستوى التماثل النسبي مع الشرعية الدولية، وأخذ مصالح الولايات المتحدة بعين الاعتبار في محاكاة تطورات الصراع، وكذلك الاقتراب أكثر فأكثر تجاه مصالح وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، لأن قيود "الإيباك" أخذت في التفكك، والتراجع النسبي داخل مطبخ صناعة القرار الأميركي.
وتعود أسباب هزيمة إنجل وفق ما ذكره الكاتب جوش روبتر إلى الطبيعة الانتهازية للوبي الصهيوني، التي مهدت الطريق لجملة من الهزائم لعدد كبير من المرشحين في الآونة الأخيرة، ومن أبرزها المذكور آنفا. وأيضا لافتضاح وانكشاف دورهم وظهرهم غير الإيجابي في السياسة الأميركية، والذي ترك بصمات وندوبًا قاتمة على عمل الإدارات الديمقراطية خصوصًا والإدارات الأميركية عمومًا، وابتعادهم عن المحاكمة العقلية الموضوعية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما ساهم في انتهاج سياسة تتناقض مع مصالح أميركا.
كما ذكرت، وكما يعرف المراقبون، إليوت إنجل ليس شخصًا عاديًا في المشهد الأميركي، إنما هو صاحب نفوذ كبير داخل أروقة السياسة الخارجية الأميركية، وله باع طويل في التخطيط والتشريع داخل المؤسسة التشريعية الأميركية لصالح الدولة الإسرائيلية المعادية للسلام، ولخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967، والتي ترتكب (إسرائيل) الموبقات المتناقضة مع القانون الدولي ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وتضرب روح السلام في مقتل. لهذا فإن هزيمته تحتل أهمية خاصة، لأنه ستكون لها ارتدادات على مكانة "الإيباك" أولاً، وثانيًا على الكونغرس عمومًا، وثالثًا على السياسات الأميركية العامة، ورابعًا سيكون لها أثر إيجابي على الشعب الفلسطيني وحقوقه، لأن خروجه من المؤسسة التشريعية، مكسب غير مباشر للحقوق الوطنية. لا سيما أن من حل مكانه يتمتع بحس المسؤولية السياسية، ولا يخضع لابتزاز " الإيباك"، ولا غيره من المؤسسات الصهيونية أو الإنجليكانية المتواطئة مع إسرائيل المارقة.
وقبل أن أختم، أود لفت انتباه الجميع لضرورة قراءة التحولات النسبية من منظور رجل السياسة الأميركي، وليس من الرؤية الفلسطينية. بتعبير آخر، النظر للتطورات بمسؤولية وموضوعية ودون مغالاة، أو تطير. لأن معادلات السياسة الأميركية الداخلية والخارجية تحكمها مصالح الولايات المتحدة، لا مصالح فلسطين المنكوبة بالاستعمار الإسرائيلي، والذي كان لأميركا باع طويل بذلك.