هذه الأيام تم الإعلان عن محافظة رام الله والبيرة وعدد آخر من المحافظات الفلسطينية مناطق محررة من (كوفيد-19)، بعد أسابيع من المواجهات الطاحنة لمنع انتشار هذا الوباء بين أفراد المجتمع الفلسطيني، وتزامن مع هذا الإعلان انتهاء مرحلة الحجر الإلزامي الصحي أو الاحترازي لعدد من الحالات التي تم تنظيم اقامتها في الفنادق أو المستشفيات التي تم تخصيصها لاستقبال الحالات المصابة بالفيروس ضمن ظروف حجر لا يمكن القول إلا أنها تليق بإسم فلسطين وكرامة الفلسطيني، إعلان انتهاء الحجر يِشكلٍ علامة فرح نتمنى ان تكون شاملة لكافة ربوع فلسطين في قادم الايام، مع إدراكنا وتأكيدنا على أهمية إننا ما زلنا في المعركة ولم يحن الوقت بعد للنزول عن ظهر الجبل.

لقد انشغلنا كما العالم خلال الأيام والأسابيع الماضية في متابعة ظهور وتفشي التهديد الفيروسي، وطغت على كتاباتنا مظاهر وتداعيات الخوف من الفيروس، ليس فقط على أنفسنا، بل على اقتصادنا ومجتمعنا من كافة النواحي، وانشغلنا جميعًا في البحث عن سبل وطرق الوقاية والعلاج، واتخاذ الإجراءات الاحترازية على مستوى الافراد والمؤسسات والشركات، والأعين ترقب أن يصلها ولو من بعيد بشرى اكتشاف ذلك المصل أو ذلك العلاج لهذا الفيروس ويضع حدًّا لتمدد الجائحة بين الدول وبين الناس، ومع ذلك غصت المستشفيات بالإصابات المؤكدة وغير المؤكدة، وامتدت أماكن الاستضافة لمؤسسات لم تكن ذات يوم مصممة لتكون مركزًا صحيًّا لإيواء المصابين، أو تقديم خدمات الحجر الصحي، لكن حُسن الاستجابة، وروح التضامن والمسؤولية الوطنية الفلسطينية كشفت حقيقة مؤسساتنا سواء في القطاعين العام أو الخاص، مؤسسات كانت هي البدر الذي نفتقده ويطلع بسرعة البرق في الليلة الظلماء، فكانت مؤسساتنا الفلسطينية على مستوى المدن والقرى والمخيمات وحتى في أماكن اللجوء والشتات على قدر من المسؤولية، وأنجبت هذه الروح الوطنية وقفات عز ومبادرات وطنية، من رعاية الأسر ومساندتها، إلى حواجز المحبة والامن والسلامة والسهر على أمن وسلامة المواطن على بوابة التجمعات السكانية في الليل والنهار، شباب وشابات وقفوا لحماية هذا الوطن من كل تهديد، وكانت عين الصحافة تمضي خطوة تلو أخرى مع هذا النبض الوطني الخلاق، توثق عودة ممرضة بعد منتصف الليل إلى منزلها بعد ساعات من المناوبة، وتلتقط صورة لعامل نظافة يعمل رغم قساوة الشتاء الماطر لتبقى شوارعنا وساحاتنا عصية على الفيروسات والأمراض، لم تنم عيون أجهزتنا لا ليل ولا نهار، طبيب ومحافظ ووزير وغيرهم الكثير، جيش من التعاون والتلاحم الفلسطيني في زمن الشدائد، ملحمة ليس لها الا ان تكتب صفحة من نور في سجل من ذهب.

وسط كل هذه الملاحم، وانشغالنا وتركيزنا الشديد على تهديد الفيروس، وتركيز أعيننا على عدد الإصابات وعدد حالات الشفاء، ومتابعتنا اليومية للايجازات الصحفية، والاحاطات الاعلامية الصادرة عن القيادة والحكومة الفلسطينية، كدنا ننسى تلك المبادرات التي اطلقها العديد من أصحاب الايادي البيضاء، تلك الحملات التي تبنت متابعة من هم في الحجر الصحي الالزامي، فتجربة الحجر وتزامنها مع حالة منع التنقل ضمن إعلان حالة الطوارئ الاولى والتجديد لها لاحقًا، تشكل تجربة جديدة على واقعنا الفلسطيني، جديدة كحالة صحية ونفسية وإجراءات طبية، لكنها ليست جديدة على عزة وكرم ودرجة احساس شعبنا بالمسؤولية حينما يجد الجد ويصبح كل شيء على المحك.

ففي الوقت الذي شهدنا الدرجة العالية من احترام انسانية الانسان تحت الحجر الصحي وفق الترتيبات التي أشرفت عليها المؤسسات الرسمية الفلسطينية رغم عسر الحاجات وشح الموارد وحساسية المرحلة، إلا أنها كانت في طليعة الدول الاقليمية والدولية، سواء من حيث المكان وشروط الإقامة ومستوى الإجراءات الصحية من كافة جوانبها، وصولاً الى الخدمات الصحية والغذائية اللازمة لهؤلاء المحجورين، ومستوى مهنية وانتظام تقديم تلك الخدمات على امتداد فترة الحجر وتحت كافة ظروف منع التنقل في ظل حالة الطوارئ.

قد لا نكون الدولة الأولى لكننا بلا شك ضمن أفضل الدول، وهذا يتكشف من خلال مقارنة اماكن الحجر سواء في الفنادق أو المستشفيات وترتيباتها ومستوى الرضا والراحة التي تم توفيرها لكافة النزلاء على أُسس مهنية خالصة، ويكفي النظر الى ما تغص به وسائل الاعلام والتواصل عن مآسي المحجورين في العديد من الدول ومعاناتهم من الظروف الصحية في أماكن الحجر التي وجدوا انفسهم داخلها بين عشية وضحاها، وما محاولات فرار البعض من تلك الاماكن كما تناقلته وسائل الإعلام إلا مؤشرات على صعوبة الحياة ومستوى الخدمات في تلك الاماكن.

لقد أظهرت هذه الازمة آلاف قصص النجاح في كل تجمع فلسطيني، وكشفت عن روح فلسطينية لا تقبل الانكسار او الهزيمة، تجارب من نور سيكون لها إضاءات في قادم الصفحات والأيام، ولا تقبل برفع الراية البيضاء مهما كانت الازمة طاحنة، ولم يكن لنا ان نحقق قصة نجاح في هذا المجال، لولا مبادرات ومساهمات العديد من الأفراد والمؤسسات الفلسطينية صاحبة الأيادي البيضاء، وصاحبة النخوة والمسؤولية الوطنية في هذه المرحلة الحرجة، فهم الأساس وهم الأبطال الحقيقيون حتى وإن لم نشاهدهم، فالعطاء سمة أبنائنا ومؤسساتنا الوطنية، ومع تواصل عطائهم في شهر رمضان المبارك، نجد أن من حقهم علينا أن نرفع قبعاتنا احترامًا وتقديرًا  لهم، لنقول شكرًا بصوت عال لكل من ساهم ويساهم في توفير دعم مادي او معنوي يمكننا من تجاوز هذه الأزمة، فالانتصار الكبير هو حصيلة انتصارات متراكمة يومًا بعد يوم، وعطاء أصحاب الأيادي البيضاء، يشكل دعمًا وتغذية لشريان الحياة الكريمة، وهو رافد أساسي لتعزيز صمودنا الاقتصادي والصحي والنفسي في ظرف نحن في أمس الحاجة لنكون كالجسد الواحد، لأن الضعف ليس لحظة في الزمن بل هو بوابة كبيرة قد تتشكل من خلالها فيروسات وأعداء جدد، شكرًا لروح العطاء، شكرًا لمن يقفون وقفة عز، عشتم وعاشت فلسطين قوية سالمة معافاة.