شياطين العرب وأمنا الغولة!

لم يكن تغيّر المواقف من حول القضية الفلسطينية مفاجِئًا، وعليه أن يكون كذلك. ولم تكن ضخامة التطورات المحيطة بها في هذه الأيام لتُقابل بردّة فعل مساوية أو موازية لتلك قبل عشرين عامًا على سبيل المثال.

 

 فلقد جرى في النهر الكثير من المياه، وتغيّرت دول وأنظمة، ومات قادة عظام، وتقزّمت الأمور الكبيرة، وكبُر العصر الاستهلاكي الاستتباعي حتى لف حول رقبة عامّة الناس.

 

تقلّصت مساحة المبادئ والمعتقدات الثابتة، أو تطرّفت، وتهاوت العدالة وتم شنق الحق، وانهارت منظومات قيم وأخلاق كثيرة، فلقد جرى في النهر كثير مياه نتنة جعلت ممّا كان يُظن أنَّ لا تغيير فيه وهمًا، بحيث أصبح التغيير من النقيض إلى النقيض واضحًا سافرا للعيان.

 

كانت فلسطين قضية العرب الأولي فعليًا الي الدرجة التي هبّوا للدفاع عنها في حروب عديدة رغم ضعف حالهم حينها، يحدوهم الأمل التحرير ويدعون الله النصر. وكانت قصيدة الشاعرالعربي المصري علي محمود طه (أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدا) بصوت الفنان محمد عبدالوهاب.

 

في حرب أكتوبر للعام 1973 التي شاركت بها كل الأمة، كانت الحكومات والشعوب وقادة الرأي العام جنبًا الى جنب، وصفًا وحدًا في مشهد لن تراه بعد ذلك أبدًا!

 

حقّقت اتفاقيات "كامب ديفد" 1978 والعام 1979 لدولة الكيان الصهيوني انتصارها الثالث الكبير بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 حيث تمَّ إخراج مصر مرة واحدة وإلى الأبد كما يريد الإسرائيليون من معادلة الصراع لتحرير فلسطين.

 

ومنذاك الوقت أو قُبَيله اتخذت القيادة الفلسطينية رؤيتها السياسية الواقعية، فحين ينكسر الظهر لا تستطيع مطلقًا أن تصلب طولك، وتحمل سيفك وظهر الأمة مصر.

 

 تمحورت الأدوار والأفهام والمساعي حول نقطة تحقيق الممكن في ظل الاستطاعة، وعليه تمكنت السياسة والدبلوماسية الفلسطينية ضمن سياق (العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد ومجنون من يزرع ولا يحصد) أن تحقق إجماعًا عربيًّا على الحد الممكن في زمن الرداءة والخذلان والهرولة والانسحاق الذي مازال قائمًا إلى اليوم.

 

الممكن بعد "كامب ديفد" أصبح سقفه واطئًا، وما رافق العام الصعب عام 1979 (اتفاقية كامب ديفد وحرب التيارات الإسلاموية في أفغانستان ضمن تحالف عربي-أمريكي، والثورة الإيرانية) أدى لقلب الأمور وتغييرها جذريًّا، وتبدّلت الأحوال وتغيرت المعسكرات وتبدّلت التحالفات وسقطت كثير من الأولويات كان من ضمنها فلسطين حيثُ أصبحت تتحرّر من أفغانستان! ثُمَّ لاحقًا من العراق ثُمَّ من نيويورك، ولاحقًا من سوريا ومن ليبيا!

 

تمّ اختراع عدو جديد للعالم، وهم الإسلامويين الإرهابيين، أو كما أراده الغرب الأمريكي الاستعماري: الاسلام هكذا، أو كما بدأ بالتنظير له بوش الأب، لا سيما وبدايات انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تحقق بعد ذلك بعشر سنوات.

 

 لم يتبقَ للقوة الوحيدة في العالم بعد العام 1990وهي "الغولة أو الغول" أمريكا إلّا أن تضرب وحدة الموقف السياسي الهش في منطقة العرب، لا سيما والتأكيد الأمريكي المزلزل منذ الاعتراف بالكيان عام 1948 إن ما يهم أمريكا بالمنطقة فقط بقاء "اسرائيل" التي ساهمت باختراعها (بما يعنيه من تفتيت وتدمير وتتبيع وتذييل العرب لها) والنفط.

 

وعليه فلقد جرى في النهر من المياه الآسنة الكثير التي استطاعت تغيير المقاييس المعيارية لدى العالم، وبالطبع لدى العالم العربي، بل ولدى متطرفيهم، فها هو العدو (الإسلاموي الإرهابي المتحالف مع الأمريكي المتغطرس) يسنّ أسنانه وينتقل من مهاجمة العدو البعيد (الغرب وأمريكا) إلى العدو القريب (المجتمعات والدول العربية)، وتغيب فلسطين.

 

في ظل أحادية النظرة الأمريكية لهموم ومشاكل العالم العربي وتركيزها فقط في: النفط وبقاء وهيمنة الدولة الإسرائيلية، وفي ظل أنَّ العدو الإسلاموي (المخترَع) بدأ ينشب مخالبه في رقبة الدول العربية والإسلامية، فلا مناص لنا من الدفاع عن الأنظمة أولا وما سيصبح لاحقًا وأخيرًا!

 

تتقزّم القضايا المركزية، في ظل الخوف على النظام، من قبل الحكام عامة، فتتعادل القضايا المصيرية للأمة عندهم مع قضايا الحفاظ على العروش حتى تتغلب الثانية على الأولى، إلى أن اختفت قوة العراق عن الخارطة لتلحقها سوريا بعد 10 سنوات، وبعد أن حُيّدت مصر وكادت تسقط لولا رحمة ربك.

 

 تعاون شياطين العرب مع فلول الإسلامويين ليحققوا لـ"أمنا الغولة" أي للعقل الغربي الأمريكي الأوربي الاستعماري الارهابي المتغطرس حقيقة مطامعه بتفتيت الأمة جغرافيًّل وسياسيًّا، ونهبها اقتصاديًّا (وكما قال ترامب بوقاحة عز نظيرها)، وفكريًّا وثقافيًّا، ثُمَّ قيميًّا إلى الدرجة التي وصل فيها اليوم من ينظّر ضدَّ إيران باعتبارها العدو الأوحد (أو العكس من ينظر في إيران ضد العرب باعتبارهم العدو الأوحد) وبشدة أقوى من التنظير ضدَّ ما كان يفترض أنه العدو المركزي للأمة، هل تذكرونه؟! 

 

ما زالت المياه الآسنة تلوث النهر ومجراه، بل وبدأت تقذف في المحيط بقذاراته فلم يسلم أحد من العُقم العقائدي والانحراف الفكري والرقاعة السياسية والانهزام القيمي الديني والوطني أمام الاستهلاكي الاستتباعي للغرب الاستعماري المتغطرس.

 

وصلنا للحظة الحقيقة، بعد أن قامت قوي الاستعمار الغربي الامريكي الأوربي بتدجين أحلام وتطلعات الشعوب العربية لتحصرها ما بين عدد الاعجابات (الليكات) وعدد المشاهدات والمشاركات في ظل التبارز في اقتناء أحدث طُرُز للسيارات ولأجهزه الهاتف الخلوي! فتصبح صورة أو مقطع مرئي بمليون مشاهدة أكثر أهمية من قراءة كتاب لمحمد عمارة أومحمد عابد الجابري أوفاضل الربيعي أو الكواكبي، أوشعر محمود درويش أو أحمد شوقي، أو تصفح قصة لإحسان عبد القدوس أو أمين المعلوف أوالطاهر وطار، والطيب صالح.

 

"انتشر الحمقى والتافهون على وسائل التواصل الخداعة، وأزداد أتباعهم بالآلاف إن لم نقل بالملايين. بالمقابل انقرض المفكرون و المثقفون، بل لم يعد لهم وجود على الساحة واكتفوا بمراقبة تيار جارف من السفاهة والإستبلاد يغزوا العديد من الميادين كالفن والثقافة والصحافة وحتى السياسة، فأصبحت “الميديقراطية” مدرسة التافهين، تنتج لنا وبشكل يومي روادًا وأساطير، يرتكبون جرائم بشعة بحق الأجيال الناشئة." كما يقول الكاتب سفيان عمري

 

قال المغني المصري تميم يونس في لقائه مع الإعلامية منى الشاذلي نصًا: "قررت أتحدى، وأعمل أغنية تافهة جدًا! وهي أغنية من 3 كلمات فقط وبشريط مملّ جدا ويشغلوها بالأفراح ويرقصوا عليها، وهي أغنية: أنتِ أي كلام، ونجحت!!!؟"، نعم نجحت بمقاييس التفاهة بل وحصدت حتى الآن 10 مليون مشاهدة على "يوتيوب"!؟.

 

حين تصنع الأمة التفاهة وترقص على إيقاعها، وحين ينجرف فكر الأمة مع بضاعة الغرب الثقافية الغثّة، ومع العقل الاستهلاكي المتذرر فان الصواب يبدأ بالضعف، والعقل يؤجر طوابقة لزبالة الشارع، ولغثاء الغرب الامبريالي الرأسمالي ويلقي من أول ما يلقى القيم والاخلاق والثقافة المتميزة، والايديولوجيات والقضايا المركزية، فترى فلسطين متدحرجة علي أرصفة الشوارع بعد ان كانت تحتضنها كل القلوب.

 

مما لا شك فيه أننا نحن الفلسطينيين، وفينا الأمة العربية قد أسهمنا بالانجرار وراء رُغيبات وهمسات ووعود الغرب! ولم يكن هذا علينا بغريب منذ الثورة العربية الكبري، حتى ثورة العام 1936، ف"اتفاقيات أوسلو"، فالمبادرة العربية، إذ يختصر العقل الغربي والصهيوني المتغطرس من الاتفاقيات ما يأخذه له، ويلقى على قارعة الطريق ما لا يريد، فنظل ننتظر منذ العام 1999 نهاية السنوات الخمس لاتفاقية أوسلو ولا تأتي، وكانت الانتفاضة، وستكون المقاومة موجات ثم موجات.

 

هي لا تأتي! حتى لو تلاقت مع السنوات الأربع الكاذبة والخداعة في مشروع نتنياهو-ترامب التصفوي، لتضيف إلى الأعوام العشرين الماضية أعواما جديدة نتعلق فيها بحبال الهواء ونحن نري المحيط برمّته بقادته وجماهيره برجاله ونسائه يتساقط الواحد تلو الأخر.

 

وجدت المباديء لتُصان، وكانت الأهداف متغيرة حسب تقديرات الواقع المتفاعل مع النظر الصائب، وفُهم التغيير في إطار الصيانة والتقدير، وإلا فلا.

 

إن التغيير سِمة الحياة، والهوى واختلاف المصالح هو المحرك الرئيس لصراع العروش والحروب، بينما صراع الامبراطوريات والعقل الاستعماري يحركها الاستراتيجيات طويلة الأمد بالهيمنة والتمدد والسحق.

 

في أتون المعارك الاستعمارية تُداس كافة أنواع المباديْ والقيم، كما ديست كرامة جثة السلطان المملوكي "قانصوه الغوري" قرب حلب فلم يعرف لها قبر حتى اليوم، وكما استعبدت أمم الغرب الموهوم بتفوقه العنصري ملايين الأفارقة وقتلت منهم ما لا يحصي، فالضعيف يُسحق ولا يسمح له أن يصل إلى النهر أصلاً.

 

ونحن إن أردنا التحرير والنصر، والنماء والسعادة، والوحدة والنهضة كأمة -هذا علي فرضية حصانة القلّة التي مازالت تؤمن بقيمة وعظمة المبادئ والقيم الجامعة- فليس لنا إلا أن نعيد ضبط ساعاتنا، مع عبدالوهاب وليس تميم، وشحذ أفكارنا ومعتقداتنا، وتجميع ما تبقى من قوانا وسمو أرواحنا قبل أن تقضي علينا "الغولة"، التي تكذب علينا ونفرح، وتلقينا في البئر أوتلتهمنا.