ليس هناكَ نتيجةٌ تفوقُ التّعادلَ عندما تستضيفُ فوقَ أرضِ وطنِكَ فريقاً تقدّرُهُ وتحترمُ قدومَهُ إليكَ رغمَ ما يدورُ في رأسِهِ من محاذير. هكذا كان الحالُ يوم أمس في مباراة الفدائيِّ الفلسطينيِّ مع الأخضرِ السّعوديِّ -الضيفِ العزيزِ في فلسطين. فلا فوزُ الفدائيِّ يُرضينا احتراماً لضيوفِنا، ولا فوزُ الضّيفِ يتلائمُ مع هذا الحشدِ الفلسطينيِّ الهائلِ الذي جاءَ ليشجّعَ فريقَهُ وليرحّبَ بالفريقِ الضّيف. 

 

لم تكنْ مباراةُ الأمْسِ حدثاً رياضيّاً فقط، رغمَ أهميّةِ الرّياضةِ وكرةِ القَدَمِ على وجهِ الخصوصِ في المجتمعِ الفلسطينيِّ المُنقسِم بين ريال وبرشلونة، والمتوحّدِ دوماً خلف فريقِهِ "الفدائيّ"، وتكادُ تلكَ الرياضةُ السّاحرةُ أن تكونَ -إلى جانبِ صفقةِ القرنِ- المسألةَ الوحيدةَ التي تحظى بإجماعِ الفلسطينيّينَ بغضِّ النّظرِ عن انتماءاتهم السياسيّةِ والفصائليّة، فما الذي أضافتْهُ مباراةُ الأمسِ لرصيدنا الوطنيِّ؟

 

أوّلاً: يستطيعُ شعبُنا أنْ يفرحَ ويعبّرَ عن ذلكَ من خلالِ تجمّعٍ جماهيريّ حاشدٍ ينفضُّ المشاركونَ فيهِ كلٌّ إلى بيتِهِ دون أن يعتدي أحدٌ على الممتلكاتِ العامّةِ، بعكسِ دولٍ كثيرةٍ توصَفُ "بالمتقدّمةِ" ما زالت عاجزةً عن فرضِ القانونِ والنظامِ على مشجعي كرة القدمِ، ورغمَ وجودِ الاحتلالِ فإن الفلسطينيَّ قادرٌ على وضعِ الضوابطِ الوطنيّةِ لنفسْهِ، دونَ أن يحتاجَ إلى قبضةِ القانونِ الصّارمةِ لترشدَهُ إلى "الطريقِ الصحيح".

 

ثانياً: لا أحدَ يستطيعُ السيطرةَ على جمهورِ كرةِ القَدمِ عندما يحتشِدُ بهذه الأعدادِ ويحتلُّ المدرّجاتِ، ولأنّ الأمرَ كذلكَ لا بدَّ من التعاملِ مع مجرياتِ التّشجيعِ خلالَ المباراةِ من منطَلَقِ كونِها تعبيراً عفوياً عن "روحِ الجماعةِ" التي تحكُمُ مثلَ هذه التّجمّعاتِ الجماهيريّة، وهذا يقودُنا إلى نتيجةٍ واحدةٍ: يعرفُ جمهورُنا بحسّهِ الوطنيِّ كيفَ يشجِّعُ منتخبَهُ الوطنيَّ ويكونَ دوماً اللاعبَ رقم ١٢ الذي يشاركُهُ في المباراةِ، ويدركُ مقابِلَ ذلكَ أنَّ حبّهُ لفريقِهِ لا يمكنُ أنْ يحجبَ عنهُ واجبَ احترامِ الإخوةِ الضّيوفِ، وفي هذا رسالةٌ تنمُّ عن أرقى مستوياتِ الوعي الوطنيّ. 

 

ثالثاً: نعي حجمَ الهجمةِ التي تعرّضَ لها المُنتَخبُ السّعوديُّ بسببِ قرارِهِ بالمشاركةِ في مباراةٍ على أرضِ فلسطين، وهي هجمةٌ حاولت الرّبطَ بينَ هذا القرارِ وبينَ التطبيعِ مع العدوِّ، لكنَّ الجماهيرَ الفلسطينيّةَ التي احتشدت في "الرّام" يوم أمس قد قالت كلمتَها، وعلى مَن يفهمون التطبيعَ بشكلٍ مغلوطٍ أنْ يتوقفوا عندَ هذا الاستقبالِ الفلسطينيِّ الحميمِ للمنتخبِ السّعوديِّ، فالفلسطينيّونَ بحاجةٍ إلى التّواصُلِ مع أشقّائهم، لأنّ فترةَ وجودِهم في سجنِ الاحتلالِ قد طالت، ولا يجوزُ لأهلِ السّجينِ أن يتركوهُ وحيداً في المعتقَلِ ويمتنعوا عن زيارتِهِ بحجّةِ أنّ الزيارةَ ستخدِمُ السّجانَ وتضرُّ بمصلحةِ السّجين! وها هو الجمهور الفلسطينيُّ السجينُ في وطنهِ يختزلُ الخلافَ ويرفضُ التعريفَ الخبيثَ للتطبيعِ حين يقولُ لزائريهِ السّعوديّينَ: أهلاً وسهلاً بكُم في فلسطين!

 

رابعاً: نستطيعُ أن نجزمَ أنَّ لهذهِ المباراةِ ما بعدَها، وستتسابقُ المنتخباتُ العربيّةُ والصديقةُ لزيارةِ فلسطينَ واللّعبِ أمامَ هذا الجمهورِ المتسامحِ والحضاريِّ الذي لا يهتفُ لأحدٍ سوى لوطنِهِ، ولا يطلبُ من أحدٍ أن يطلّقَ زوجتَهُ نكايةً بفريقِ الخصْم! لكنّ أهمَّ تداعياتِ تلكَ المباراةِ ستمسُّ العلاقاتِ الفلسطينيّةَ-السّعوديّةَ، ولعلّ ما حقّقتْهُ من أثرٍ طيّبٍ في نفوسِ إخوتِنا السعوديّينَ يفوقُ بآلافِ المرّاتِ مردودَ كلّ الحملاتِ الإعلاميّةِ التي حاولنا من خلالِها شرحَ موقفِ شعبِنا من المملكةِ وشعبِها وقيادتِها، فكلُّ الأصواتِ المسيئةِ للسّعوديةِ لم تصمدْ لحظةً واحدةً أمامَ هذا الترحيبِ الأخويِّ الذي حظي به "الأخضرُ السعوديُّ" في فلسطينَ. ولا شكَّ أنّ قائمةً طويلةً من المواضيعِ سيناقشُها السيّدُ الرئيسُ أبو مازن خلالَ لقائهِ اليومَ مع خادمِ الحرمين الشّريفَيْنِ ووليِّ عهدهِ، لكنّنا على ثقةٍ أنْ زيارةَ المنتخبِ السّعوديِّ إلى فلسطينَ ستكونُ على رأسِ تلك القائمةِ.

 

*حربُ الشّعبِ تعني استخدامَ كلِّ الوسائلِ المتاحةِ لمُراكمةِ الإنجازاتِ وتسخيرِها لتحقيقِ الهدفِ الرئيسِ وهو النّصرُ والحريةُ والاستقلالُ. وها هو شعبُنا يضيفُ وسيلةً جديدةً يُتقِنُ استخدامَها جيّداً في تلكَ الحربِ، وسيلةً اسمُها كرةُ القَدَم.

 

 

١٦-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان