حدّدَ ألفريد نوبل في وصيّتهِ عام ١٨٩٥ خمسَ جوائزَ ليتمَ منحُها بِاسمه في مجالاتِ الفيزياء والكيمياءِ والآدابِ والطبِّ والسّلامِ، أمّا جائزةُ نوبل في العلومِ الاقتصاديةِ فهي جائزةٌ مستَحدَثةٌ أقرّها بنكُ السّويدُ عام ١٩٦٨ وأسماها بِاسم ِنوبل، ويتمُّ منحُها سنويًّا لمن يساهمونَ بإنجازاتٍ مميّزةٍ في المجالِ الاقتصادي. وقد تمّ منحُ الجائزةِ للعامِ الحاليِّ إلى ثلاثةٍ من الخبراءِ الاقتصاديّين هم الأمريكيُّ من أصلٍ هنديٍّ Abhijit Banerjee وزوجتِه الفرنسيةِ Esther Duflo والأمريكيّ Michael Kremer، وهم ثلاثةٌ من روّادِ الأبحاثِ الاقتصاديةِ في مجالِ تحديدِ سياساتِ مكافحةِ الفَقْرِ في دولِ العالمِ الثّالث. لماذا تمَّ منحُ الجائزةِ إلى هؤلاءِ الاقتصاديّينَ دونَ غيرهم؟ للإجابةِ على هذا السّؤالِ لا بدَّ من العودةِ إلى الأبحاثِ التي يقومُ بها الخبراءُ الثلاثةُ في مجالِ مكافحةِ الفقر الذي أصبحَ مشكلةً مرافقةً للعولمةِ وناتجةً عنها، وهي أبحاثٌ بدأت في التسعينيّاتِ من القرنِ الماضي. وهناك قاعدتانِ تميّزانِ الطريقةَ التي يتعاملُ بها الفائزونَ بالجائزةِ معَ آفةِ الفقْرِ:

 

القاعدةُ الأولى هي اعتمادُهم لطريقةٍ جديدةٍ في علاجِ المشكلةِ تعتمدُ على تجزئةِ القضايا الكبرى وتقسيمِها إلى مواضيعَ صغيرةٍ والتّعاملُ معَ كلِّ مجموعةٍ من السكّانِ حسبَ احتياجاتِها الحقيقيّةِ بعيدًا عن استخدامِ الوصفاتِ الجاهزةِ للتطبيقِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وقد قسّمَ الخبراءُ مشكلةَ الفقرِ إلى ثلاثةِ جوانبَ رئيسةٍ يتمُّ التعاملُ معها بشكلٍ منفردٍ، وهي قضايا التّعليمِ والصّحةِ والزراعةِ، ثمَّ تتمُّ تجزئةُ كلِّ جانبٍ منها إلى عددٍ كبيرٍ من المشاكلِ الصغرى والتّركيزُ على دراستِها ووضعِ الحلولِ لها، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ يمكنُ التدليلُ عليها بواحدٍ يمثّلُ مشكلةً عامّةً في دولِ العالمِ الثالثِ، وهو تدنّي مستوى التعليمِ الحكوميِّ بكلِّ ما ينتجُ عن ذلكَ من ترسيخٍ للفقرِ وعدمِ منحِ أبناءِ الفقراءِ فرصةَ التعليمِ الضروريِّ لإخراجهم من دائرةِ الفقرِ، حيثُ يلجأُ المدرّسونَ إلى سدِّ النقصِ في مرتّباتِهم بإعطاءِ الدّروسِ الخصوصيّةِ، وهو ما يؤدي إلى زيادةِ الفوارقِ في المجتمعِ، فمن جهةٍ يتسبّبُ إهمالُ المدرّسِ لواجبهِ في المدرسةِ بتدنّي مستوى التلاميذِ بشكلٍ عام، بينما يتمكنُ أبناءُ الأغنياءِ من الحصولِ على دروسٍ خصوصيةٍ ترفعُ مستوى المعرفةِ لديهم. وقد وجدَ الخبراءُ أنَّ الطريقةَ الأكثرَ نجاعةً لمقاومةِ هذه الظاهرةِ تكمنُ في توفيرِ الحوافزِ التي تشجّعُ المدرّسينَ على القيامِ بواجبهم التعليميِّ في المدرسةِ ذاتِها. وبنفسِ الطريقةِ يجري حلُّ إشكالاتٍ أخرى كعزوفِ المزارعينَ عن استخدامِ الأسمدةِ الكيماويّةِ، أو عدمِ توفّرِ الرّعايةِ الصحيّةِ لسكانِ المناطقِ الرّيفيّة.

 

القاعدةُ الثانيةُ التي أعطت أبحاثَ الفائزينَ بجائزةِ نوبل مصداقيّةً كبيرةً هي اعتمادُهم في أبحاثِهم على التجربةِ العلميّةِ، إذ يستخدمونَ طريقةً مشابهةً للأبحاثِ التي تجريها شركاتُ الأدويةِ قبل تسجيلِ أيِّ دواءٍ جديدٍ وهي التجربةُ العشوائيّةُ، بحيثُ يتمُّ اختيارُ مجموعتين متشابِهتَين في الصّفات ثمَّ إعطاءُ أعضاءِ واحدةٍ منهما الدّواءَ الحقيقيَّ بينما يُعطى أعضاءُ المجموعةِ الأخرى "دواءً" وهميًّا (placebo) وتجري دراسةُ فعاليّةِ الدواءِ بناءً على النتائجِ النهائية للمجموعتَين. هكذا يطبِّقُ الخبراءُ الثلاثةُ أفكارَهم النظريةَ، حيثُ يختارون عيّناتٍ عشوائيةً في بلدانٍ مختلفةٍ تتشاركُ في مشاكلَ متشابهةٍ في قطاعاتِ التعليمِ أو الصّحةِ أو في الجانبِ الزّراعيِّ، ولا يتمُّ إقرارُ برامجِ المساعداتِ الكبرى إلّا بعدَ أن يتمَّ التّأكدُ من نتائجِ التجربةِ العشوائيةِ على نطاقٍ محدود. ويمكنُ القولُ إنَّ نتائجَ أبحاثِ الخبراءِ الفائزين بجائزة نوبل هذا العام وما توصّلوا إليهِ من نتائجَ علميّةٍ قد أصبحت معيارًا أساسيًّا يعتمدهُ البنكُ الدوليُّ وصناديقُ التنميةِ ومنظماتُ المساعدةِ غيرُ الرّبحيةِ في كلِّ ما يقدّمونهُ من مساعداتٍ وما يموّلونهُ من مشاريع، فقد ثبتَ فشلُ تجربةِ تقديمِ القروضِ والمساعداتِ للحكوماتِ المركزيّةِ بشكلٍ مباشرٍ، حيثُ دأبت هذه الحكوماتُ الفاسدةُ على تبديدِ تلك المساعداتِ، وفي أحسنِ الأحوالِ لم تكن قادرةً على توجيهِها إلى المحتاجين بشكلٍ يضمنُ إخراجَهم من دائرةِ الفقر، وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ كقلّةِ التجربةِ وانعدامِ الدّراساتِ والخططِ والافتقارِ إلى الخبراءِ والمتخصّصينَ في مكافحةِ الفقرِ.

 

*لو كانَ الفقرُ رَجُلاً لقتَلتُهُ.... بالعِلمِ والتّخطيطِ والتّجاربِ العمليّة.

 

١٧-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان