لم تشهَد الحربُ العالميةُ الثانيةُ معركةً خاضتْها المقاومةُ الشعبيّةُ السريّةُ بحَجمِ وضراوةِ تلكَ التي خاضَها الجيشُ الوطنيُّ السرّيُّ البولنديُّ ضدّ قواتِ الاحتلالِ الألمانيةِ، وهي المعركةُ التي تُعرَفُ بِاسم "انتفاضةِ وارسو"، والتي بدأتْ في الأولِّ من آب/أغسطس ١٩٤٤، واستمرّتْ حتى الثالثِ منْ تشرينِ الأوّل/اكتوبر منْ نفسِ العام. وقد أطلقَتْ قيادةُ الانتفاضةِ على تلكَ المعركةِ اسمَ "العاصفة".

للتذكير: بدأتْ شرارةُ الحربِ العالميةِ الثانيةِ باجتياحِ جيش ألمانيا النازيّةِ لبولندا في الأوّلِ من أيلول/سبتمبر ١٩٣٩، ومع سقوطِ وارسو في قبضةِ هتلر انتقلتْ الحكومةُ البولنديّةُ الشرعيّةُ إلى المنفى واتخذتْ من لندن مقرًّا لها، حيثُ أشرفتْ على تشكيلِ المقاومةِ السريّةِ ضدَّ الاحتلالِ النازيّ، وكان الجيشُ الوطنيُّ السريّ أكبرَ حركاتِ المقاومةِ في أوروبا، حيثُ انضوى تحتَ لوائهِ مع اقترابِ الحرب من نهايتها ٤٠٠ ألف مقاتل.

في صيف ١٩٤٤ ومع اشتدادِ هجماتِ الحلفاءِ غربًا والاتحادِ السوفياتي شرقًا بدأتْ ألمانيا النازيةُ تقتربُ من الهزيمةِ النهائيةِ، ووصلتْ الجيوشُ السوفياتيّةُ الزاحفةُ نحوَ برلينَ إلى الضفةِ الشرقيّةِ من نهرِ فستولا الذي يقسِم العاصمةَ البولنديةَ وارسو إلى نصفَين. مِنْ هنا جاءَ قرارُ قيادةِ الجيشِ الوطنيّ بإطلاقِ عمليةِ "العاصفةِ" بهدَفِ السيطرةِ على وارسو للحيلولةِ دونَ وقوعِها في أيدي القواتِ السوفياتيّةِ ومنْ معها مِنَ الشيوعيين البولنديين. لقد خاضَ المُنتَفضون معركةً غيرَ متكافئةٍ مع الجيشِ الألمانيّ استمرت ٦٣ يومًا، وانتهتْ بتدميرِ المدينةِ بأكملِها وبمقتَلِ عشرةِ آلافِ فدائيّ، وما يقاربُ ٢٠٠ ألف مدني بولندي.

يُجمِعُ البولنديّونَ على أنّ قرارَ خوضِ هذهِ المعركةِ كانَ مجازفةً تاريخيّةً محكومةً بالفشلِ، لكنّهُم يُجمِعونَ أيضًا على أنّها شكّلتْ حجرَ الزاويةِ في الحفاظِ على الشخصيّةِ الوطنيةِ البولنديةِ. انطلاقًا منْ ذلكَ يتعاملُ الشعبُ البولنديُّ مع هذهِ الذكرى كأهمِّ حَدثٍ في التاريخِ الوطنيّ المعاصرِ، ويحظى مَنْ بقيَ على قيدِ الحياةِ من أبطالِ تلكَ المعركةِ بمكانةٍ تصلُ حَدّ التقديسِ، أمّا ضحايا هذه الملحمةِ فما زالوا أحياءً في ذاكرةِ الأمةِ، تحملُ أسماءهم شوارعُ العاصمةِ الرئيسةُ، ويشكّلُ "متحفُ انتفاضةِ وارسو" مزارًا دائمًا للبولنديينَ والسيّاحِ الأجانب.

اليومَ يبدأ البولنديونَ احتفالاتِهِم لتخليدِ هذهِ الذكرى، ورغْمَ خلافاتِهم السياسيةِ الراهنةِ ونظرَتِهم النقديّةِ لقرارِ قيادةِ الجيشِ الوطنيّ بخَوضِ هذهِ المعركةِ المحكومةِ سلفًا بالفشلِ، فإنَّ بولندا كلّها تنحني إجلالاً لأبطالِ انتفاضةِ وارسو، التي مهّدت الطريقَ أمامَ الأجيالِ اللاحقةِ كي تحيا حُرّةً عَزيزةً فوقَ ترابِ وطنِها.

*في مسيرةِ الشّعوبِ نحوَ الحُريّةِ ليسَت هناكَ تضحياتٌ تَذهَبُ سُدى، فتاريخُ كلِّ شعبٍ هو سلسلةٌ متواصلةٌ من نضالِ الأجيالِ المتعاقبةِ جيلاً بعدَ جيلٍ. هكذا هو تاريخُ بولندا، وهكذا هو تاريخُ فلسطينَ والنصرِ القادمِ حتمًا كثمرةٍ لوقفاتِ المجدِ والرّجولةِ، من ثورةِ البُراقِ عام ١٩٢٩ والثورةِ الكبرى سنة ١٩٣٦، مرورًا بمعركةِ القسطلِ عام ١٩٤٨، وُصولاً إلى الثورةِ الفلسطينيةِ المعاصرِةِ والانتفاضةِ الأولى والثانيةِ -مسيرةٌ طويلةٌ وتضحياتٌ وبطولةٌ، وعهدٌ للشعبِ بمُواصلةِ الثورةِ حتّى النَّصر.

 

١-٨-٢٠١٩

*رسالة اليوم

رسالة حركية يومية من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان