وقع الفيل في الحفرة السحيقة. التفّت حوله مجموعة تلبس الزي الأحمر، وعنّفته حتى سالت الدماء من كلِّ أنحاء بدنه الضخم. بعد قليل، أتت مجموعة تلبس الزي الأزرق وطردت المجموعة الحمراء وعطفت عليه بالأكل والمشرب وتمسيح الدماء والدموع. تكرّرت هذه الحالة أكثر من مرة في اليوم ولأسابيع، حتى شعر الفيل المسكين أنَّ فئة تريد تعذيبه وأخرى تتمنى إنقاذه. حفظ اللون الأزرق على أنَّه خير وكره اللون الأحمر على أنَّه شر. وهكذا قرر الزرقاويون إخراجه من الحفرة وذهب معهم بطمأنينة تامّة ورضوخ عام. وبذلك روّض الصيادون أضخم الحيوانات لخدمتهم في القتال والنقل. وتختلف حكايا الأولين حول أول عملية "تشكيل وعي" جديد للفيل إن حدثت في شرق آسيا أو أفريقيا، لكنها حدثت وتحدث حتى الآن؛ ولن يعرف الفيل أنَّ المجموعتين حلفاء في الصيد والترويض، وأنَّهم تآمروا عليه لاستغلاله.

 

هذه باختصار عملية الترويض والتدجين وإملاء الخيارات، وكما ظنّ الفيل أنّه لا يملك سوى خيار الوثوق بأصحاب اللون الأزرق، يقتنع فلسطينيو لبنان اليوم أكثر من أي يوم مضى أنَّهم لا يملكون خيارات كثيرة، فليكن التهجير الطوعي بعدما عانى الأجداد التهجير القسري والاقتلاع من الأرض ليصبحوا لاجئين في بلاد ليست واسعة. ويقول دعاة "الهجرة" إلى الغرب عن قصد أو من دون قصد: دع المؤامرة تمر!

 

فعلاً، وأكيدًا، وحقًّا، وصدقًا أنَّ الوضع مزرٍ جدًّا على الأصعدة كافّةً، لكن أليس الغرب الذي يسعى مطالبو "الهجرة" للجوء إليه هو سبب النكبة الأولى والنكبات المتلاحقة؟ لماذا يطالبون كندا وأستراليا بنقلهم إلى الجنة الموعودة، ولا يتظاهرون عند السفارة البريطانية التي سلَّمت فلسطين للمحتلين عبر وعد بلفور؟ ولماذا لا يعتصمون عند أقرب نقطة للسفارة الأميركية التي تعمل على تصفية ما تبقى من قضية؟

 

باختصارٍ شديد، نحن أمام خيارين للإجابة: إمّا أنَّ منظّمي ظاهرة "الهجرة" يؤتمرون من أجهزة أمنية ويلعبون على وتر الأحلام عند اللاجئين، أو أنّهم مثل الفيل المروَّض يذهبون عند من يتآمر عليهم بعيون مظلمة وظالمة، ولا يدركون أنَّ المؤامرة المستمرة منذ قرن تريد للاجئين أن يرموا أنفسهم في أحضان من عذّبهم وسلب أرضهم. فالمجموعة الحمراء التي قتلتنا قبل وخلال وبعد النكبة هي نفسها الزرقاء التي تمد يد العون حاليًّا. لكنّ هذه اليد ستُقطَع بعد لعبها بمشاعر الناس من دون أن تكون لاعبة أساسية في الحلبة السياسية، لأنَّ أوراق اللعبة ليست بيد أميركا فقط، و"الجوكر" يبقى قرار الشعب بالنسبة لصفقة القرن وبنودها، ولم يعلن أحد أنَّه مع تنفيذ الصفقة سوى بعض الصفيقين المشاركين في ورشة البحرين. ومؤسف جدًّا أن ينادي شباب بما يظنونه هجرةً وهو تهجيرٌ فعلي، ولو كان المقابل أنانية فردية من دون وعي جماعي فيما يخص القدس والأرض والمستقبل.

 

يحق السفر لأيّ فرد، لكن ليس من حق مجموعة أن تذهب ذليلة إلى سفارة غربية لتقديم طلب بيع الحق وتدّعي أنَّها تتحدّث بِاسم الشعب أجمع. يظنون أنَّ ما يحصل فرصة لا يجب أن تضيع، وعليه فلنبع. ومعروف أنه في سوق البيع والشراء، يخسر البائع كثيرًا مقابل أن يسوّق لمنتوجاته ويقبل المشتري بضاعته. ومطالبو "الهجرة" الآن يتنازلون ليس فقط عن الكرامة وحلم أكثر من نصف مليون شهيد، إنَّما يتنازلون عن حقّهم المادي في بلادهم من أجل "بيت صغير في كندا" وفقًا لأغنية السيّدة فيروز.

 

ويبقى اللغط وعدم تحديد العدو الحقيقي حاضرًا والتخوين جاهزًا، فبدل التظاهر أمام السفارة الكندية يمكن التظاهر ضدَّ العدو الأساس، أي الاحتلال. لو توجَّهت الباصات جنوبًا لجعلت العالم كلّه يترقّب ويفتّش عن حلول. هذا لم يحصل، لأنَّ من يريد تفريغ المخيّمات من اللاجئين يعرف كيف يوجّه غضبهم. ولذلك، وفي لحظة مفصلية يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، لا بدَّ من احتواء "حمق" مَن يطالب بالتهجير، وهنا يأتي دور المؤسسات والفصائل، أقلّه لعرقلة المؤامرة إذا لم نستطع إسقاطها.

 

بعيدًا عن "نظرية المؤامرة" إذا كانت حقيقة أم شطحات خيال، إلّا أنَّ غالبية الشعب الفلسطيني تؤمن بها وتُسقِطها على كلِّ الأحداث، وإن كان حدثًا عاديًّا يحصل في أي مكان آخر ومع أشخاص مختلفين. هذا طبيعي جدًّا، لأنَّ أجدادنا تعرَّضوا لمؤامرة حقيقية بأدوات استعمارية مختلفة أهمها القتل والتهجير. ومن هنا يمكن النظر إلى دواخل الفصائل الفلسطينية كافةً، لنرى كيف يتآمر الأخ على أخيه والرفيق على رفيقه! وللأسف الأجنحة داخل التنظيمات ربما كانت سابقًا نوعًا من التنافس وسيطرة رأس الهرم على القاعدة، فيفرّق بين مساعديه للتحكم بهم. حاليًّا، لا يُعرف من يتآمر على مَن ولماذا؟ هل من أجل مال أو منصب أو بدوافع خارجية واستخباراتية؟ هي مؤامرة الجميع ضدَّ الجميع. وهذا يمتد إلى عموم الشعب، وتكفي النظرة النمطية عن الفلسطيني أينما حل لمعرفة الواقع المؤلم. يُعرف الفلسطيني أنَّه عبقري في اختصاصه، لكنّه في نظر بعض الشعوب العربية ولا سيما في دول الخليج "غدار ومخادع". ويوسم الفلسطيني في دول الطوق بأنّه "استغلالي وانتهازي". ولم يصل الفلسطيني كثيرًا للمغرب العربي ويقيم كثيرًا وبأعداد كبيرة كي تظهر صورة نمطية معينة، ويمكن أن تكون موجودة لكن لا نعلمها. هذه الصور النمطية لها أبعاد تاريخية وأحداث عسكرية، أما على مستوى الأفراد فلها تفسيرات نفسية ومجتمعية؛ أهمها أنَّ الفلسطيني الشاعر بالمؤامرة عليه يضع خطة دفاعية فورًا ليحمي نفسه، فيتآمر تلقائيًّا على زميله في العمل مثلاً ليضمن البقاء في الوظيفة. أيُّ فلسطيني عَمِلَ في الخليج يلمس ذلك ولو لم يعترف به. وما يخشى منه أنَّ الفلسطيني يتآمر على نفسه وهو يعتقد أنّه طوق النجاة يُرمى له، فيصبح فيلاً غبيًّا وغادرًا بقِيَمه وقامته.

بقلم: زاهر أبو حمدة