أسرّ في أذني من الكلام المهم الكثير، فلقد كنت أجلس بقربه أحيانا، أو أمامه في إطار جلسات المجلس الثوري لحركة فتح الذي جمعنا سنين، وحين ترشحنا في المؤتمر الحركي لصف القيادة الأول.
لم يجمعنا القرب الجغرافي في المقاعد فقط، وإنما جمعنا اتفاق منهج التفكير الذي يأخذ بالأسباب، فيحلّل ويستنتج ويطرح المُتاح والممكن والمُلحّ والمؤجّل، وشبه المستحيل إذ لا مستحيل عند الثائر.
ما يقوله كمال الشيخ مُفكّر به طويلاً، فهو ليس وليد رعونة أو رأي أهوج أو قول غير محسوب، بل هو وليد تجربة عميقة وصعبة وثريّة، انتقل فيها في كل مواقع الثورة حين توافق مع بعض قيادتها في الرأي وحين اختلف معها، إلا أنه ظل حتى آخر لحظة بحياته يسجّل حضوره في أذني من جهة، ولكل من يستمعون له: ألا تفرّطوا بالشرعية أبدا.
بعد المؤتمر السادس لحركة فتح الذي عقد في بيت لحم عام 2009 زارني كمال الشيخ في مكتبي في التعبئة والتنظيم لحركة فتح عندما كنت مسؤول التدريب وإعداد الكوادر فيها، وكنا قد أصبحنا عضوين في المجلس الثوري.
  تحدّث أبو فراس وهمس وحلّل وأفاض ما أغني لديَّ الكثير مما كنت أجهله في مسيرة الثورة ومسالكها الصعبة، وعلاقات قيادتها وكوادرها الصاعدة والهابطة، إلا أنها المكلّلة غالبا بقيم المحبة والوفاء والإيثار، ولم تكن هذه القيم سرا من أسرار حركة فتح، بل هي من مميزاتها مع الجماهير حتى اليوم، حيث لطالما قدمت الحركة خدمة الجماهير على كوادرها حتى ضجّت بذلك الكوادر في مراحل عديدة.
كان الثائر كمال الشيخ مشبَعا بروح المناضل العقلاني، لربما بعد رحلة جنون طويلة تنقل فيها مع ملك المجانين ياسر عرفات، فكانت عمان وبيروت وطرابلس وما بعدها حتى الوطن.
كمال الشيخ يعرف ما يقول جيدا، ولا يقول إلا لهدف، وما هَدَف أبدًا إلا لتطبيق أحد أهم مبادئ حركة فتح وهو تحقيق الوئام والاتفاق والوحدة الداخلية، ولربما أثّرت فيه تجربة الانشقاق الكبير عام ١٩٨٣ على يد النظام السوري وأتباعه، فجعلته حسّاسا جدًّا حين يختلف الأخوة خاصة باللجنة المركزية، فيبدأ يحلّل بتواضع العارفين، ويبسُط الرأي ويقترح ما يراه مثار إجماع لا اختلاف.
  هو على نقده القاسي في إطاره كما شهدته على الأقل في جلسات المجلس الثوري سنوات سبع، وحين استلم الرقابة الحركية فإن هدفه ومسعاه ظل في ذات المنحى التقريبي والتوافقي.
أسرّ في أذني ما لا أنساه عن أسرار العمل في الإطار القيادي الأول، أي اللجنة المركزية للحركة، خاصة في أسلوب الإدارة وطريقة تعاملهم مع بعضهم البعض من شد وجذب وعِراك مرير ووئام وتلاوم وعناق واختلاف واتفاق، في أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه يمثل بحق مدرسة في الإدارة تستحق الدرس.
 عشنا في حركة فتح مدرسة ياسر عرفات ثم مدرسة محمود عباس ففيهما من الإيجابيات الكثير ومن السلبيات الكثير، ولكن عين الفاحص والمراقب والمتأمل كعين كمال الشيخ تستطيع أن تستخلص وتعظّم من الإيجابيات وتقلّص من السلبيات فتكتب للأجيال تجربة يعتزون بها ويفتخرون.
قال: إنهم قادتنا اختلفنا أم اتفقنا معهم
قلت: أتعني أنه لا يجوز انتقادهم؟
قال: لم أقل ذلك، فالنقد له مكانه وإلا خسرنا هيبتنا
قلت: ولكن الأخ صخر حبش تحدث عن النقد الصارخ أي خارج الحركة
قال: هذا حين يكون الافتراق لا بديل عنه، وهو ما حصل في حالة الانشقاق
قلت: يعني أنك تنزّه القيادة وتمنع مخالفتها؟ وتساعدها عل الاستبداد؟
قال: لا تتعجل الحكم، بل أشرت لأهمية الولاء للقيادة في إطار الالتزام بفلسطين وبالبرنامج السياسي، وخاصة فترة الأزمات حيث تُغلق الآذان حينها عن سماع النقد.
قلت: ولكن أبو عمار وأبو إياد كمثال لطالما اختلفا في المواقف والمنعطفات، وغيرهما أيضا.
قال: ولكنهما على غيظهما، لم يتفوها بالعلن بأي كلمة نابية ضد بعضهما البعض مطلقا.
قلت: وحين يتصالحا بعد جهد تمنع وإعراض، كان الأخ أبو الأديب أو عباس زكي حمامة السلام بينهما يردد على مسامعهما بيت الإمام الشافعي.
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
   قال: نعم، تماما، وكان يبتسمان ويضحكان ويتعانقان ويكملان البيت وكأن شيئا لم يكن
وَلَستُ بِهَيّابٍ لِمَن لا يَهابُني
وَلَستُ أَرى لِلمَرءِ ما لا يَرى لِيا
فَإِن تَدنُ مِنّي تَدنُ مِنكَ مَوَدَّتي
وَإِن تَنأَ عَنّي تَلقَني عَنكَ نائِيا
كان أبو فراس يتحسس الفروقات في طرائق العمل بين قيادة الأنداد مع ياسر عرفات، وقيادة افتقاد الزمالة في عهد محمود عباس.
 وكان يلتمس لذلك العذر مرتبطا بالسن والتجربة وطبيعة العلاقات والتشابكات، فأسرّ في أذني عن أسلوب أبوعمار الصارم والحليم وأسلوب أبو مازن المؤسسي والصلب ما كان في الاختلاف بين الأسلوبين مساحة قابلة للأخذ منها أوالترك، فكل يعمل ويخطيء وليس من أيهما ذاك المنزّه أو المقدس أبدا، فنحن كما كتب قائدنا خالد الحسن في كتابه الشهير "لكي لا تكون القيادة استبدادا" إلا تنظيما ثوريا واقعيا وليس أيديولوجيا إقصائيا.
كمال الشيخ العسكري الصارم كان مرتب الأفكار منظمها،قصير العبارات يختار أجزلها وأكثرها تأثيرا، فلم يكن ليتكلم كما اعتدنا من البعض الذي يلبس قميص القيادة الواسع فيبدو مضحكا حين يتحدث فيما يعلم وما لا يعلم، وفيما يخصه ولا يخصه وفيما هو ذو صلة أو ذاك عديم الصلة.
كنت أتعجب من الطريقة التي يتعامل فيها مع قيادة الحركة من حيث التقديم والاحترام والتقدير حتى وهو في حالة النقد لمواقفهم، فلم يكن لينتقد بشكل فوضوي أو هادم أبدا ما يُخرج النقد من إطاره ليصبح تخريبا لطالما نهى عنه بقوة، بل إنه حين يرى السيل بلغ الزبى كان يحذر دون أن يقطع مع المختلفين شعرة معاوية.
التجربة الطويلة لدى كمال الشيخ رحمه الله جعلته لا يتذمر من المخالفين له، بل يقابل هجومهم بابتسامة ورحابة صدر، وكأنه يسرّ في أذني قائلا: "يا ليت قومي يعلمون" ، فلقد عركته التجربة وأصّلت فيه معنى السكينة واليقظة والمحبة، وزادت من قدرته على التحمل حتى من أشد القساة.