قدَّمت فرقة "المسرح الوطني الفلسطيني" عرضًا مسرحيًّا مميزاً بعنوان "البؤجة" عبارة عن محاكاة بين نكبة فلسطين ومرارة اللُّجوء والإصرار على العودة، وذلك في قالب دارمي تناول أكثر من قضيَّة سياسيَّة واجتماعيَّة وانسانيَّة يعيشها الشَّعب الفلسطيني في المخيمات، لتؤكد مجدداً أنَّ الفن الملتزم رسالة وطنيَّة تتكامل مع النضال الوطني بمختلف وجوهه أولاً، وأنَّ الشَّعب الفلسطيني يرفض تحويل قضيته إلى انسانية خدماتية ثانياً، ويصر على تحرير أرضه والعودة إليها وزرعها وقطف خيراتها ثالثاً.

وإكتسبت المسرحية "البؤجة" التي أقيمت في مركز معروف سعد الثَّقافي في صيدا برعاية سفارة دولة فلسطين في لبنان، وتنظيم "الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين" بالتعاون مع "المجلس الأعلى للشباب والرياضة"، أهمية خاصة في توقيتها، كونها تأتي في ظل محاولات أميركية دوليَّة متصاعدة لتصفية القضيَّة الفلسطينية وشطب حق العودة، والضغط على القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس للقبول بالقرارات الأميركية بإعتبار القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني والإنخراط في "عملية السلام" وفق "صفقة القرن" التي تطالب الجانب الفلسطيني بتقديم المزيد من "التنازلات المرة"، تبدأ بالقدس ولا تنتهي بقضية اللاجئين وشطب حق العودة.

وقد تألَّق الفنانون في تقديم عرضها، من "الألف إلى الياء" على مدى ساعة ونصف متواصلة، وسط جمهور سياسي وشعبي حاشد، قوطعت مراراً بالتصفيق لتسجيل موقف، وهي من تأليف محمد عيد رمضان إلى وإخراج محمد الشولي، ومن تمثيل: "عبد عسقول، وأحمد الخطيب، وجمال هنداوي، وفرح هنداوي، ومحمد عوض"، وبالإشتراك مع "وليد سعد الدين ومحمد عيد رمضان"، وألحان وغناء محمد آغا، وإيقاع أحمد الحاج مصطفى، وسينوغرافيا أحمد الخطيب وخالد مسعود وإدارة المسرح محمد عوض.

و"البؤجة" عبارة عن قطعة حملها الأجداد الذين تهجروا عن فلسطين عام النكبة 1948 وحملوا فيها أهم ما يملكون من صكوك ملكية ومفاتيح المنازل وكل الوثائق التي تثبت حقهم في أرضهم، ولمَّا أقاموا في لبنان بدأوا بتبديل "البؤج" بالتموين وباتت هي البديل المؤقت، بعدما اعتقدوا أياماً معدودة ويعودون إلى منازلهم وبلداتهم وبلدهم فلسطين.

وتروي المسرحية كيف أن "فالج"، يرمز إلى العدو الصهيوني، قد احتل أرض "أبو الخير" وزوجته "فكرية" أي فلسطين، فحرمهما من زرعها وريها وقطف خيراتها، وعندما تهجرا منها قسرا حملت "أم الخير" البؤجة على ظهرها وفيها صكوك الملكية ومفاتيح المنزل، فبقي "فالج" يحتال عليهما من أجل الإستيلاء عليها وإخفاء أي دليل على أنهم أصحاب الأرض أمام المجتمع الدولي.

في مرحلة اللِّجوء الأولى، أصيب "أبو الخير" بالحزن وبقي منتظراً الحل، مردداً شعار "لازم تزبط" أي العودة إلى أرضه، وهو يعول على المجتمع الدولي دون جدوى، كان مندوبوه يتفقدونه، ويحملون "البؤج" والمساعدات الإنسانية ويقطعون الوعود فتبقى حبراً على ورق، إلى أن قرر "الثورة" على الظالم وينزل إلى الأرض بنفسه ويحررها من المحتل الغاصب.

في المسرحية التي لم تخلو من الفكاهة والطرافة، تناول الفنانون قضايا عديدة ترتبط بالنكبة ومرارة اللِّجوء، والثقافة الفلسطينية مصحوبة بتساؤلات كبيرة، لماذا نحن دون غيرنا، كل الظروف المأساوية تظافرت عليهم، فرقت بينهم، كادوا يصابون باليأس والإحباط، أغلقت الأبواب في وجوههم، تحركت عقارب الزمان إلى الأمام وبقي كل شيء على حاله من "المراوحة القاتلة"، سرق الوقت الفرح والأمان وكاد يقضي على الأحلام والأبناء.

وعرضت المسرحية في فصولها المتعددة التي كانت تقطع بأغاني للفنان محمد آغا، لهذه القضايا، وأولاها: فإن اللاجئين عند تهجيرهم القسري حملوا "صكوك الملكية" ومفاتيح المنازل التي بقيت شاهداً حيا على حقهم بالأرض، ولم يتنازلوا عنها رغم كل محاولات إستبدالها بـ "بؤج" التوين والمساعدات، وثانيها: تسليط الضوء على محاولة إستقطاب الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني تحت شعارات مختلفة نحو مفاهيم السلام وتقبل الآخر واعتماد الحوار كوسيلة لحل النزاعات وترسيخ معادلة التفاهم بين الشعوب في محاولة للمساواة بين القاتل والمقتول، بين الظالم والمظلوم، لكن الشعب الفلسطيني لم يستسلم وبقي يصر على حقه في الأرض.

وثالثها: رغم كل الظلم بقي الرهان على المجتمع الدولي قائماً، وهو يقوم بالتسويف والمماطلة وبدلاً من معالجة القضية كان يرسل "البؤج" كما فعل "شكري" إلى أن رفضها "أبو الخير" وقرر الثورة.

وركزت المسرحية على موضوع "الهجرة" بطريقة مزدوجة، بين اختيار الحياة الرغيدة وبين التمسك بالقيم والثواب الوطنية، أوضحت أنها "مؤامرة" تطال جيل الشباب وتهدف إلى تفريغ المخيمات ونسيان القضية، وطالت "خير" نفسه نجل "أبو الخير" الذي هاجر إلى أميركا وبدأ يرسم حياة جديدة لا ينتظر فيها الوقت دون جدوى، فاعتقد والده خطأ أنه نسي القضية، ولم يعد يبالي خاصة وأن صبري الجار قد هاجر وعاد بثقافة غربية، تحاكي عصر العولمة والسرعة والتغيير، في تعبير لخصه "بكبسة زر تصبح في الجهة الأخرى من العالم"، ودعوته إلى "عدم الانتظار والبقاء في المجهول"، قابله دفاعاً "أبو الخير" بتعبير وطني "بأن أسمى الأماني العودة إلى الوطن، والنوم في بيت الغير غربة، واللقمة من يد الغريب مذلة".

بين الثقافتين يكشف "أبو الخير" في نهاية المسرحية، أن "صبري" كما "خير" قرر العودة والزواج من "سيمون" التي أسست جمعية "هاجر" بعدما اكتشفت الحقيقة، فعادت معه ونزلوا جميعاً إلى الأرض لتحريرها من "فالج" وإعادة حرثها وزرعها، مرددين "لن نقبل داراً غير دارنا، وسنموت ونعيش في هذه الأرض دون سواها"، ليخلص إلى أن التاريخ لا يمكن محوه، وأن الجغرافيا لا يمكن تغييرها، وأن الحق السليب سيعود إلى أصحابه عاجلاً أم آجلاً، وسيبني العائدون المستقبل.

ووصف رئيس الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين في لبنان ومخرج المسرحية محمد الشولي، المسرحية بأنها تعبير صادق عن الفن الوطني الملتزم، الذي يحاكي النكبة وحلم العودة، بتعبير بسيط هو "البؤجة"، فأجدادنا حين تهجروا عن فلسطين قسراً حملوا "البؤجة" وفيها أغلى ما يملكون من وثائق تثبت حقهم بمنازلهم وأرضهم، ورغم كل التحديات والمغريات أصروا على التمسك بحقهم وعلى العودة إلى الأرض وهذا ما يطمح إليه الشعب الفلسطيني في كل أماكن لجوئه، فلا "الجنسيات العابرة للحدود" ولا "الثقافات المستحدثة" ستغير من هذه الثوابت والقناعات وسيعود الشعب الفلسطيني إلى أرضه مهما طال ليل الاحتلال الإسرائيلي.