تارة يروي القصة بشغف وفرح وتارة أخرى عند بعض القصص السابقة يكسو صوته ونظرته حزن دفين، حياته كحياة شخص عاش عشرات السنين ولكنه لم يعش منها إلى الآن سوى عشرين وخمس، هو شاب يعد نموذجا يحتذى به بعد ما أنجزه وحققه، انطلق يحلم وسعى لتحقيق الحلم، فلا خيال لديه دون أن يجعله واقعا ليعرف جمال مذاقه.

مهران سليمان برهم براهمة، ابن مدينة أريحا والتي رأى فيها النور قبل خمسة وعشرين عاما، الخامس بين أخوته والصحافي بينهم، درس الصحافة والإعلام برحلة شاقة رسخا حكايتها الزمان والمكان. أحب براهمة متابعة نشرات الأخبار منذ كان طفلا، يراقب أقوال وحركات مقدمي الأخبار، ترددت في مخيلته الكثير من الأسئلة؛ كم من الناس يشاهد هذا الشخص، وكم يحبونه لما يوصله من معلومات للمواطنين؟ وكان للنشرة الجوية نصيب من انتظار مهران لها، الذي كانت تبهره رسومات الغيوم والشمس وعواصم الدول.

 ومع بلوغ مهران عامه الثالث عشر بدأت انتفاضة الأقصى عام (2000)،  وعن هذه الفترة يقول: "زادت مشاهدة جميع الفلسطينيين للتلفاز وترقب نشرة الأخبار لمعرفة آخر المستجدات على صعيد الساحة الفلسطينية، وما هي ردود الفعل في الدول العربية (أدامها الله)، التي كنت من لحظتها أنتظر الزحف المليوني إلى وقتنا هذا، طبعا كانت كل الأخبار (استشهد مواطن واغتيل قائد والقادة العرب تشجب وتندد)".

 يضيف براهمة: من منا لا يعرف الشهيد محمد الدرة والأثر الذي تركه خبر استشهاده في نفوس كل الفلسطينيين للوحشية في قتله، وبعدها شاع تناقل الوسائل الإعلامية الإسرائيلية  صور هذا الشهيد يلبس قبعة الصهيونية هو ووالده محاولين إيصالها للعالم أجمع بأن الفلسطينيين هم من قاموا بهذه الفعلة الهمجية، ولم تتوقف على ذلك فقط بل طال التزوير إلى مقدساتنا، وهذا ما زادني غضبا، وبدأت أفكر في ضرورة لمعرفة العالم الحقيقة، وجرائم الاحتلال في شعبنا الصامد  المرابط في الأرض المقدسة.

وبعد إنهاء الثانوية العامة عملت عاما كاملا في مجالات عدة، منها مزارعا في المستوطنات القريبة من أريحا، يخبرنا مهران ويكمل: أتيح لي في ذلك الوقت فرصة السفر إلى إيطاليا لاستكمال دراستي في إدارة الفنادق لكن "يا فرحة ما تمت" سرعان ما حصل الانقلاب في غزة عام (2006) فألغي كل شيء بطبيعة الترتيبات، حيث كان لي زملاء من قطاع غزة سيرافقونني، بعدها في شتاء (2007) التقيت بإحدى الطالبات في كلية المجتمع العصرية، وتفاجأت بأنني أستطيع دراسة الصحافة والإعلام فيها، وهذا ما قمت به مسرعا وبدأت في خطوات التسجيل ودفعت الرسوم من مدخراتي خلال عملي  في المستوطنات والمزارع.

 بعد أن انتهت مدخراته جميعها، وزاد عبء المصاريف من مواصلات وأقساط جامعية ومراجع، وبالرغم من وقوف عائلته بجانبه لكن سوء الحال الاقتصادية حينها والتي ارتبطت بالوضع السياسي كانت بحاجة لدعم أكبر، فكر مهران مليا بطريقة يستطيع فيها توفير لو بعض من احتياجاته.

 يستذكر براهمة تلك الأوقات: بدأت البحث عن ما قد يفي بالغرض، مستبعدا فكرة العمل كعامل لتدني الأجرة  اليومية وهي (50 شيقلا) أي مواصلات يوم واحد إلى رام الله (وساندويشة) تسد جوعي، دون أن يكون هنالك فائض لادخاره للأقساط الجامعية، فخطرت في بالي فكرة بيع (الهريسة) بعد أن تذوقتها عند أحد الباعة الأصدقاء في بيت لحم، واتفقت معه  ليرسلها لي مع سيارات الجسر إلى أريحا، وبالفعل تم الأمر وبدأت بترتيب عربة واضعا عليها (الصواني) منطلقا من باب منزلي وسط البلد، وما إن وصلت إلى الدوار كنت قد أنهيت بيع (السدر) الأول خلال  ثلث ساعة،  فلاقت الفكرة استحسان الجميع  وأحبوا مذاق (الهريسة) خصوصا أنه لم يكن هناك أحد يبيعها بهذه الطريقة، والحمد لله كنت قد اتخذت زاوية وسط البلد وبدأت بالمناداة (هريسه هريسه) والبيع بكل يسر، وما أن علم زملائي وأساتذتي وأصدقائي وقبلهم جميعا عائلتي بالأمر حتى بدأوا بتشجيعي وحثي على المضي قدما، فتحول بيع الهريسة إلى لقاء الأحبة برفقاء دربي وتجاوزت أحاديثنا الأخبار الشخصية إلى التنسيق للنشاطات الشبابية التي كنا نقوم بها بشكل دوري في كل شتاء.

موقف ترك انطباعا نفسيا سيئا لدى مهران، وعنه يروي لـ "نوى": من أكثر المواقف التي لن أنساها أبدا وتركت أثرا فيّ وعند بعض الأشخاص، تلك الحادثة مع أحد عناصر الشرطة الفلسطينية، عندما قام بمنعي من البيع في المنطقة المعتاد عليها بعد أن أصبح لي ما يقارب العام استرزق هناك، وأبديت تجاوبا وتراجعت إلى الخلف منفذا لأوامره، لكنه لم يقتنع وأراد إزاحتي من المكان كله، إلى أن نجح في استفزازي ومن منطلق دفاعي عن لقمة عيشي بدأت بمعاندته وعدم الانصياع له، فاشتد الأمر وتحول لعراك بيننا، وجاء أفراد من مركز الشرطة بحكم قربه من المكان وقاموا بضربي وإهانتي وأخذي إلى المركز، وهناك تكلم معي المدير بلهجة قاسية وكان يبدو عليه الاستفزاز من الأمر وتعامل معي بطريقة مهينة للكرامة، رفع قدمه مقابل وجهي وأنا ملقا على الأرض، وحينها نظرت إليه وقلت لنفسي سأستمر بتحقيق طموحي وستندم عندما تثبت لك الأيام من أنا.

ويضيف: في اليوم التالي في جلسة المحكمة فاجأني الشرطي عندما أتى ويده غطاها الضماد، واتهمني بضربه عليها بـ (المجراد) الخاص بتقطيع (الهريسة) وجرحه وتعطيله عن عمله، وحكم علي بثلاثة شهور، قضيت منها أسبوعا واشتريت محكوميتي في المدة المتبقية بما كنت ادخره لقسط الفصل المقبل في الكلية.

وبعد التخرج واجهت صعوبة في الحصول على وظيفة بما يتناسب وتخصصي، عملت في مصنع المياه "جريكو  لأكثر من (9) أشهر، وكنت قد قدمت امتحان الشامل أثناء العمل وحصلت على تقدير جيد جدا، وبعد مشقة علمت بمشروع رواد المنفد من قبل مركز تطوير التعليم في التدريب على (القيادة والمشاركة المجتمعية)، فتقدمت له،  وكان له فضل كبير للخروج من كبوتي والعودة إلى العمل الأكاديمي مستدركا ضرورة التدرب والتطوع في المؤسسات الإعلامية لاكتساب الخبرة، واتصلت بالأستاذة ناهد أبو طعميه التي كانت حينها تشغل مديرة التلفزيون في شبكة معا الإعلامية،  وهي من أساتذتي في الكلية، فأبديت رغبتي بالتدرب في شبكة معا، وتمت الموافقة بعد مقابلة خاصة، وهنا حزمت أمتعتي إلى بيت لحم مستأجرا شقة على نفقتي الخاصة، لصعوبة المواصلات، وبدأت العمل مع طاقم الشبكة بدون مقابل مادي، فالهدف كسب الخبرة بكيفية العمل الصحفي.

ويكمل، بعد ثلاثة شهور أتيحت لي فرصة التدرب في برنامج  تكميلي لمشروع رواد على البرنامج التدريب العملي للصحفيين، والذي استمر ثلاثة شهور أخرى، تدربتها ما بين معا ونادي بيت الطفل في الخليل، كانت تجربة ناجحة جدا ووضعتني في منتصف الطريق للبحث عن وظيفة، وما إن أنهيت فترة التدريب حتى حصلت على فرصة العمل في راديو القمر بأريحا نهاية عام 2011 حتى تاريخ 6/5/2012 والذي كان يومي الأول في مديرية زراعة أريحا والأغوار بمسمى علاقات عامة وإعلام زراعي براتب 1500 شيقل على برنامج المياومة " عقد " والحمدلله.

جراء ممارسة مهران للنشاطات الشبابية والمجتمعية ومهنته في الصحافة، وانتقاله بين المؤسسات وحضور الاجتماعات، جعله يلتقي بشكل دائم بمن رفع قدمه أمام وجهه، وعن هذا الأمر يوضح: "بالفعل هنا أتت لحظة ندم مدير الشرطة عندما مدركا بأنه كان سينهي طموح شاب فاعل في خدمة مجتمعه، أرى ذلك بعينيه كلما التقي به، وما يبديه ذلك الرجل من احترام لي".

ويجيب: ما زلت على رأس عملي، وبعد خدمة (سنة وستة شهور) ولم يصرف لي حتى اللحظة جهاز حاسوب أو كاميرا خاصة بما يتناسب والعمل، واستطعت أخيرا الحصول على مكتب خشبي جديد مع كرسي قديم قبل ثلاثة شهور لأستريح عليهما بعد تنقل طويل بين مكاتب الزملاء في العمل ولأستمر في العمل على جهازي المحمول الخاص كما اعتدت. ولدي مشروعي الخاص وهو في المجال الإعلامي وخدمة المجتمع المحلي والمواطن أولا، طرقت الكثير من الأبواب لتمويل هذا المشروع على أمل أن يسمعني أحدهم ويمد يد العون والتكاتف معي لإنجاحه .

"أقول لكل شاب ما زال متمسكا بهدفه عليه أن يستمر بذلك مهما كانت صعوبته فما بعد المشقة إلا الراحة، بعد أن يجني ثمار جهده وعرقه، ويكمن ذلك في الإرادة والإصرار فلا تتردد أبدا، كن هجوميا ومبادرا في الحصول على حقك وانتبه بأن الحق يعطى قبل أن يؤخذ فلا تظلم أحدا  للحصول على مرادك، الطريق كالنفق المظلم لا تعرف ما ينتظرك بداخله فتتعثر بـ(مطبات) كثيرة لكن عليك بالنهوض وعدم الاستسلام، واستمر في تقدمك مهما كانت الأثمان، فإني بدأت برؤية نهاية النفق يشع نوراً بعيدا وقريبا سأخرج من هذا النفق لأصل إلى مرادي الحقيقي إن شاء الله.