"أمنيتي علاج أبي وإنقاذ حياته، فانا أموت في كل لحظة مليون مرة عندما أراه يتألم ويتعذب والمرض يفتك به" بهذه الكلمات استهل الابن المكافح مجد محمد احمد لحلوح (21 عاما) من مخيم جنين حديثه لي عندما التقيته في مكتب  صحيفة القدس في جنين قبل حوالي أسبوعين في إطار جهوده التي لم تتوقف منذ وصل مرحلة النضج وتحمل المسؤولية للبحث عن علاج ينقذ حياة والده الذي نال منه مرض "البلازما" المزمن ودمر حياته، ورغم يأس الأطباء من إمكانية علاج والده بسبب خطورة ومضاعفات نوبات مرض "تكسر الصفائح الدموية"،إلا ان مجد ظل يعتصم بالامل في إنقاذ حياة والده .
فرغم الظروف المادية وصعوبة الحياة بإعالة 9 أنفار، رفض الاستسلام للأمر الواقع وكان همه الأول والأخير كما قال "رؤية والده يستعيد حياته"، لكن الاحتلال الذي اقتحم مخيم جنين فجر يوم الثلاثاء حكم على مجد بالرحيل في ريعان الشباب قبل أن يكتمل حلمه ، وفتح جرحا جديدا في حياة عائلته التي كانت تعقد عليه كل الآمال والأمنيات .

في تلك المقابلة بدا مجد مختلفا عن الشباب في عمره، فلم تنل منه المصائب التي تتالت بحياته، وشاهدت فيه إرادة صلبة ومعنويات عالية وروح عطاء تصل حد الاستعداد للتضحية بحياته في سبيل أن يعيش والده دون الم ككل الناس ولكن الرصاصة الإسرائيلية التي فجرت قلب مجد لم تغتاله وحده فقط، بل قتلت معه أحلام عائلته وورثتها حزنا أبديا، كونه الراعي والمسؤول الأول والوحيد عن رعايتها وعلاج والده .

على مدار السنوات الماضية ، كرس مجد ورغم صغر سنه حياته لعائلته خاصة بعد مرض والده، وخلال أخر لقاء معه برزت علامات التأثر والمعاناة في كلمة نطق بها الابن المخلص وهو يروي تفاصيل مسلسل العذاب في حياة عائلته الصعبة والقاسية التي تنحدر من قرية زرعين في الداخل الفلسطيني، والتي لجأت لمخيم جنين الذي ولد فيه والده عام 1970 ، فكافح رب العائلة محمد لحلوح طويلا لبناء حياته وتأسيس مستقبله وتكوين أسرة، لكن فرحته بما رزقه الله به من الأبناء السبعة أكبرهم مجد وأصغرهم رحمة في عمر عامين، لم تدم طويلا بسبب المرض "البلازما " الذي حول حياة العائلة لجحيم ومعاناة يومية، وقال مجد "لم يعش أبي يوما حياته كباقي الناس، فظروف الحياة الصعبة في المخيم ووضع عائلته المعيشي والظروف الاقتصادية حرمته من التعليم، فكونه باكورة أبناء جدي جعله يتحمل المسؤولية "ويضيف" في مرحلة مبكرة من عمره، بدا والدي حياته مكافحا في سبيل أسرته، ومنذ صغره عمل في إسرائيل، ثم أصبح موظفا في وكالة الغوث مكان جدي بعدما أصيب بجلطة ، وتفانى في سبيل العائلة

قبل 22 عاما تزوج الوالد محمد لحلوح، واستمر في عمله في وكالة الغوث بشكل عادي رغم معاناته من روماتيزم في قدميه، فتحدى الألم والمرض في سبيل العائلة كون عمله مصدر رزقها ودخلها الوحيد حتى عام 2009 عندما داهمه المرض، وقال مجد " فجأة، تدهورت صحة أبي وأصبح في حالة مأساوية، وكانت صدمتنا كبيرة بعدما اكتشف الأطباء انه مصاب بمرض " البلازما"  الذي ينجم عنه تكسر في الصفائح الدموية مما يعني حاجته لكميات كبيرة من الدم ".ويضيف" بدأت رحلة العلاج الطويلة في عمان ، ونقلناه للعلاج بتغطية من وزارة الصحة والسلطة الوطنية، وتحملنا الكثير من الأعباء وسط الخوف والقلق على حياته، ورغم ظروفنا الصعبة ووضعنا المادي السيئ دفعنا تكاليف مصاريف مرحلة العلاج الأولى من مواصلات وأدوية ونقل متبرعين بالدم والتي بلغت 20 ألف شيكل مما اضطرنا لبيع السيارة التي كنا نملكها لسداد المصاريف ولم يكن ذلك مهما ، لان الأهم علاج أبي

استمرت رحلة العلاج تلك شهرين، لكن مضاعفاتها نالت من صحة وحياة الوالد لحلوح الذي أصبح طريح الفراش ولا يقدر على مغادرة منزله مما انعكس على ضعه الصحي، فأصيب بالسكري والهزال وبدا حالته تتدهور أكثر .وبينما كان والده ينتظر المتبرعين بالدم بعدما انتابته نوبة جديدة من المرض  قال مجد بتأثر بالغ " هكذا أصبحت حياة أبي مستشفيات ومعاناة حتى نوفر له الدم، انه لا يستحق هذه المعاناة والعذاب رغم الإيمان بقضاء الله وقدره، فهو نسي حياته ونفسه في سبيل أسرته، وتحمل كل صنوف المعاناة لتوفير حياة كريمة لنا جميعا، لذلك سأمنحه حياتي ليتحرر من المرض وعذاباته ويضيف "تتالت نوبات الألم والانتكاسات الصحية التي تفاقم معاناة والدي وتؤدي لمزيد من المضاعفات رغم متابعة علاجه بين عمان والمستشفى التخصصي، وكانت اقسى اللحظات عندما نتأخر في جمع وحدات الدم، فبين فترة وأخرى يحتاج أبي إلى 300- 400 وحدة دم وتوفيرها يستغرق وقتا.

تلك الظروف، انعكست على حياة عائلة المريض لحلوح وفي مقدمتها مجد الذي تحمل كامل المسؤولية، يقسم حياته بين رعاية والده وجمع الدم وعلاجه، ومتابعة أسرته وتوفير احتياجاتها، وتخفيف ألمها وخوفها وقلقها، مما اثر على معدله في الثانوية العامة رغم نجاحه، وقال مجد" الحمد لله، انه زرع في أعماقي روح الإيمان والإرادة لأتحمل نتائج كل هذه المأساة ومكنني من تأدية واجبي نحو أبي وعائلتي "، ويضيف " كنت أعالج أبي، ورغم دراستي عملت في الباطون وعدة مهن لرعاية أسرتي كوني اكبر الأبناء، وأصبحت المسؤول عنها لعدم توفر أي مصدر دخل لذلك لم احصل في الثانوية على المعدل الذي تمنيته وتأخرت دراستي في الجامعة"، ويتابع " بسبب الديون ومتطلبات الأسرة الكبيرة، وعدم كفاية راتبي المتواضع اضطر أخي نور (15 عاما ) لترك المدرسة والعمل في المنطقة الصناعية لمساعدتي في تسيير أمور العائلة المعيشية ".

وبين متابعة مجد لكافة المسؤوليات الملقاة على عاتقه بكل تحدي ومسؤولية، وتمسكه بدراسته الجامعية وتامين متابعة أشقائه لتعليمهم في المدارس، كان شديد التأثر عندما أجريت اللقاء معه، فوالده كان طريح الفراش في المستشفى، وبحاجة لنقل وحدات دم جديد تتجاوز الـ300، لكن المهمة لم تكن سهلة وتحتاج لمصاريف باهظة، وبسبب عجزه عن توفيرها، لجأ لصحيفة القدس لنشر صرخته ومناشدة الرئيس محمود عباس كما قال " لمساعدتي في تغطية المصاريف اللازمة لتوفير وحدات الدم لأبي، وتحويله للخارج للبحث عن علاج في ظل تقدم الطب لإنقاذه من حياة الألم المريرة ". وأضاف " بدمي مستعد أن افدي أبي ، وطوال الأيام الماضية لم انم وأنا أتنقل لجمع الدم له، لكن لا يوجد تحسن، ورغم ذلك لم ولن افقد الأمل، وأتمنى إيصال صرختي للرئيس لمساعدتنا لأننا نريد أبي حيا معنا، فنحن بأمس الحاجة له ولن يعوضنا احد عنه ".

بالصرخة اختتم مجد المحب لوالده والمتفاني في سبيل عائلته حديثه ، ولم يكن ونحن معه نعلم انها ستكون كلماته ووصيته الأخيرة، ليرحل في ريعان الشباب مخلفا الحزن والألم في حياة عائلته ووالده الذي لم يحتمل رؤية ابنه الذي رعاه طوال السنوات الماضية، ممدا في غرفة الطوارئ في مستشفى الشهيد الدكتور خليل سليمان الحكومي بعدما أوقفت رصاصة المحتل نبض قلبه، فألقى نفسه فوق صدره يبكي ويصرخ ويتألم وهو يقول" كان مجد يقاتل لأعيش وأشفى، فقتلوه وحرموني منه، طوال مرضي لم يكن يهمني الألم والخطر بموتي بل كنت قلقا من صدمة مجد إذا حل بي أي مكروه، فحرموني منه "، وأضاف " ليت يومي كان قبل مجد، لم يبق لي احد، من سيرعاني ويعالجني ويجمع لي الدم ".