خاص مجلة القدس/ حوار: يوسف عودة

إناء يرشح عنفواناً، وملامح سمرته وهج شمس لا تغيب. في شِعره حماسة الالتزام بالقضية، من معاناته وهموم شعبه شحذ مفرداته عطاءً مدافعاً في براعة الرمزية والإيحاء عن حق العودة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. رسمت ريشته سطور قصائده بصدق الانتماء وعبقت بشذى الشعب المكبَّل والمقيَّد، ناسفاً بإيمانه وموقفه الواقع الفاسد. وزخرت لوحاته الشعرية بالأصالة والالتزام. ظلُّ الأزقة قلم لا يبارحه وزفير وجعه عناقيد دالية البيت في الصفصاف. يكتب غارفاً من دواة الآهات صلاة الوطن وحلم العودة.. كأنه سعفة نخيل يهز بها تعب الرحيل ومشوار شاعر رفع راية على جبل القصيدة.

من الصعب الحديث عن الشاعر الفلسطيني محمود صبحة، الذي أحط به الترحال في مخيم عين الحلوة، حيثُ خرج مع أهله مشرداً من قريته الصفصاف في الجليل الفلسطيني عام 1948 بفعل الإرهاب المنظّم للاحتلال الإسرائيلي. وجد نفسه في خيمة تذروها الرياح، فشدَّ أوتادها بالأرض صارخاً.

مدّي جناحكِ يا عقاب... وتوقَّدي أبداً صعاب

فالجمر خلف رمادهِ... والنجم يسترُه الضَّباب

شاء الوحي ونحن شئنا... والإباءُ له انتصاب

بيته الحجري تحوَّل خيمة لجوء، وأدرك وهو ما زال في مقتبل العمر شاباً صغيراً أن المسار قد تبدَّل، وأن الحياة لا بد وأن تستمر. تمرد على الخوف والوهم، وكان عليه أن يتابع دراسته وأن يكون عاملاً في الوقت نفسه.

ولد الشاعر محمود صبحة عام 1941 في قرية الصفصاف من قرى الجليل الفلسطيني قضاء صفد. تابع تعليمه الثانوي في المقاصد الإسلامية في مدينة صيدا، وتعليمه الجامعي في الجامعة العربية، ثمَّ أعد رسالة الماجستير في الجامعة اليسوعية.

صدرت للشاعر محمود صبحة عدة دواوين شعرية منها (المجاذيف الحيارى، الفردوس المنشود، عاشق السفر، قراءة في وجوه الانتحاريين، ورواية على درب المصير...).

عمل مدرساً في الأونروا حتى تقاعده، وهو من أنشط الشعراء فاعليةً في الوسط الثقافي.

شكَّل جمعية الفن والثقافة الفلسطينية حيثُ كان يرعى أنشطتها واحتفالاتها وهي المؤسسة الوحيدة التي وُجدت على صعيد المخيمات الفلسطينية لاحتضان ورعاية المثقفين الشباب وإظهارهم على المسرح الثقافي.

أصدر مجلة الكيان عام 1986 وكانت على نفقته الخاصة إيماناً منه بدور الثقافة ومهمة المثقف الوطني.

أمَّا عن مسيرته الشعرية فيقول صبحة: "وجدت نفسي على بوابة الانتظار الطويل وفاجعة الوطن تبكيني. وعلى إيقاعات الزمن المكسور بدأت رحلتي الشعرية، أستمدُ تفاعيل القصيدة من تلك الطوابير الطويلة. كان المناخ مهيئاً لتضاريس القصيدة يرسمها قلم المعاناة والألم".

نحن صوت الحق في شهدائه

 نحن سيف الحتم زار العاصفات

لم يمت شعبي وإن غُلَّت يدَي

سوف تبقى لصغاري الشمعات

لم يتلوث الشاعر محمود صبحة بمعلبات الثقافة المستوردة، ورفض أن يكون مدَّاحاً أو شاعراً في بلاط أحد.. زادته الخيمة نقاءً وصفاءً، ولأنه كذلك يعيش وحيداً وخير أنيس في الأنام كتاب. وعتابه أن لا حاضنة للمثقف الفلسطيني في لبنان، ولا من يُشجِّع أو يرعى أصحاب المواهب للأجيال الصاعدة في المخيمات مؤكداً ومردداً مقولة “شعبٌ بلا ثقافة كشجرةٍ لا تُثمر".

وعن آماله يقول صبحة: "ليس لي إلا أمل واحد هو العودة إلى فلسطين، وأن أرى علم دولتنا الفلسطينية يرفرف فوق مآذن القدس وقبابها.

عروسة الشعر أدعوها فتستجب

وجنة الأمس كالعنقاء تغترب

هذي تناهت إلى الأطلال مذ خمدت

بوارقي، ولتلك الآل والسَّربُ

ورنة الحرب أدعوها فتخذلني

أن ليس يقفز في أحداقنا اللهب

كأنه لم يكن ما بيننا نسب

وذروة المجد، فاعتاضت بنا الخطب

إلى  أن يقول..

قلب العروبة مسرى الأنبياء وفي

ساحاتها ضرَّة للبيت تغتصب

يا قدس، أين ذوونا عن مصارعنا

وآلة الخصم معقود بها الريب.

لكن صيحتنا للحق باقية

تتشيع صحواً، فخل الريح تنقلب

وأطلق الرعد والأمطار راعفة

فإن موعدنا أن يغضب الغضب.

الشاعر محمود صبحة (أبو شوقي) لم يعرف الأضواء إلا على منابر الشعر يجهر بصوته مدافعاً عن الوطن وحقوق شعبه.. آثر أن يبقى زيتونةً جليليةً وزهرة أقحوانٍ على سفوح الجرمق. كرَّس نفسه لبناء جيل فلسطيني، مدرساً،ومعلماً وشاعراً وطنياً بامتياز. انحاز لشعبه وقضيته العادلة مؤكداً أن مرحلة الليل قصيرة والعودة حتمية. فهل من يكرِّم المبدع الفلسطيني ويعطيه حقه. سؤال برسم المعنيين..؟

 

محمود صبحة