بقلم : حسن عبادي

ناقشنا في لقاء "منتدى حنا أبو حنا للكتاب" الحيفاوي الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009) المجموعة القصصيّة "إسقاطات" للكاتبة هيرتا مولر (170 صفحة، ترجمة من الألماني: أكاد محمد حسن، مراجعة: د. مصطفى السليماني، وهي كاتبة رومانية ألمانية، ومن كتبها التي تُرجمت للعربية: أرجوحة النفس، وحيوان القلب، وكان الثعلب يومها الصياد وليتني لم أقابل نفسي اليوم).

الترجمة عبارة عن فن وضرورة كونيّة من أجل التعرّف على الآخر وتفهّمه عبر ثقافته، والتثاقف بين الشعوب، وتبادل التجارب الحياتيّة والتعلّم منها، تلك الترجمة الأمينة المحبّبة، بعكس الترجمة المعدنيّة المنفّرة، التي تُفقِد النص جماليتّه ورشاقته، وترجمة هذه المجموعة لم تكن موفَّقَة أبداً، ناهيك عن الأخطاء اللغويّة والنحويّة عبر صفحات الكتاب.

تسرد ذاكرة طفلة عاشت كوابيس ماضٍ هجرته في رومانيا بطريقها إلى ألمانيا، ماض يلاحقها ولم تنجُ منه رغم محاولاتها التخلّص منه، طفولة مليئة بالغموض الذي يخيّم على فضاء القصّ "المكانُ هنا معتمٌ دائماً، والرعشةُ التي تعتريني تتصاعدُ من البلاط، إنه مخيفٌ كسهلٍ واسعٍ من الجليد، لم يعد للسائر رجلان في بدنه لكثرة ما مشى عليها، فاضطرَّ أن يتابع المشيَ على وجهه".

تسرح الكاتبة وتمرح في وصفها لدقائق الأمور، تعقّد الأمور البسيطة بعيداً عن العفويّة، فلا تترك شخوصها وحيواناتها ومكانها تسير على طبيعتها، وكما تشتهي "وفي الليلِ يأتي الحلمُ من الفناءِ الخلفيّ ويندسُّ في الفراش… كنتُ راقدةً في فراشي وشعرت بالسكين على عنقي فتألمت، وأخذ الشقّ يزداد عمقاً، فسخن لحمي وبدأ حلقي يغلي غلياناً، ثم صار الشقُّ أطولَ مني ونما حتى غطى السريرَ بأكملهِ مشتعلاً تحت الدثار ناراً"، فأحلامها مليئة بالأشلاء الممزّقة وبالجثث لتفيق ليوم آخر عادي، مليء بالقهر ومشحون ولكنّة دون كوابيس وأموات، بل صفعات الأم ومكانسِ الجدات، وطفل يحلم بأن يصير دوّاساً على آلة موسيقيّة وموسيقياً عظيماً "الدواس يدوس على اللوح وله خواطره في رأسه، وهو يدوس فيبدأ كل الآخرين بالإنشاد، فإذا أمسك... أمسكوا"، وكذلك الحال مع طفلة الكورس المُنشدة.

تصوّر الكاتبة حياة مليئة بالبؤس؛ فرجالها يكرعون الألم واللامبالاة خارج الحانات كرجال الثلج، يكرعون الألم واللامبالاة، ونساؤها امتهنّ الفقر والبؤس وقسوة الحياة والطفلة لا تعيش طفولتها السليبة فتتخيّل والدها قاتل في نظرها لذبحه العجل، وتتخيّله في قصّة "كلمة التأبين" مغتصباً ومجرم حرب، وتعتبر جدّتها سفّاحة لأنها ذبحت طيور البط "الجسدُ المهجور يرتعش عند جليديّة القدمين، الموت حاضرٌ، والريش الأبيض ريشُ طيرٍ من جديد، وسيطير الآن".

الاغتراب سيّد الموقف والسوداويّة تلاحقها أينما حلّت رغم بساطة الحياة اليوميّة وانسيابيّتها "البقرة عُشِّرَت، الدجاجةُ أُحضِنَت البيض، التبغُ سُلّم، الخنازيرُ اشْتُريَت".

تخيّم توتاليتاريّة أيام تشاوشيسكو على النصّ؛ حرمان وقهر، تيه وسراب وعدم يقين، وماذا يخبّئ لك الغد "هل يمكن أن تتخيل معنى أن تستيقظ صباحاً والخوف ينهش أحشاءك لأنك لا تعلم إن كنت ستبقى حياً حتى حلول المساء". وتزداد عنفواناً حين تقول "الساعة الخامسة والنصف صباحاً يرنّ المنبّه. أستيقظ فأخلع ثوبي، وأضعه على الوسادة. أرتدي بيجامتي وأذهب الى المطبخ. أدخل في حوض الاستحمام. أتناول المنشفة فأغسل بها وجهي، وأتناول المشط وأجفف به جسمي، أتناول فرشاة الأسنان فأمشط شعري بها، وأتناول ليفة الحمام فأنظف بها أسناني. ثم أذهب إلى الحمام فأتناول شريحة من الشاي وأشرب كوبا من الخبز" ولا تعرف ما ينتظرها من مجهول. أخذتني لما أسمعه ليل نهار من أصدقائي في الضفّة الغربيّة، ينام ولا يعرف ما يخبئه الغد، هل سيكون منع تجوّل؟ هل سيكون حصار؟ هل سيكون حاجز مدخل القرية يحول بينه وبين مغادرة البلدة؟ هل سيكون دوام مدرسيّ لأولاده؟ هل سيكون دوام في شغله؟ و(هلّات) كُثُر.

أخذتني الكاتبة مجدّدا إلى أهالي القرى المهجّرة، وفلسطينيّي الضفة الغربيّة وهم يتحسّرون على حقولهم وأراضيهم التي استولى عليها المستوطنون على مرمى حجر، "يرى الناظر القرية من الحقول كأنها قطيع من الدور يرعى بين روابٍ لا يميز نباتها إلا الألوان. ويتراءى كل شيء قريباً، فإذا سار المرء نحوه لا يبلغه. لم أفهم هذه المسافة أبداً. كنت دائماً خلف الطرق وكل شيء يمضي أمامي وليس لي سوى الغبار في وجهي ولا نهاية في الأفق".