بقلم: عبد الباسط خلف

ودعت قباطية، جنوب جنين، جثامين أربعة شهداء هم: مجدي حمزة سباعنة، وعمر مصطفى سباعنة ونصر أيمن كميل، وعبد الله طاهر أبو زيد. وطاف المشيعون في النعوش الجديدة حواري البلدة، وأضافوهم إلى 15 عاشقًا منذ الخريف الفائت، امتزج دمهم بثرى البلدة.

وأدى الأهالي المصابون بالحسرة صلاة الجنازة على الأربعة، بينما تختطف ثلاجات القهر أربعة آخرين من شبابهم، في حزن مفتوح.

- أحلام نصر الممنوعة!

وقالت سناء زكارنة، بحديث مبلل بالدموع: إن ابن اختها الشهيد نصر كميل أحدث وجعًا ثقيلاً للعائلة، خاصة أنه وحيد أسرته.

ورسمت صورة لابن شقيقتها الخلوق والمؤدب والحنون، الذي سارع إلى إحضار أخته وتوأمه مرح من سطح البيت خشية عليها، إلا أن ثلاث رصاصات من قناصة الاحتلال أصابته في خاصرته.

وأكملت بوجع وحسرة أن نصر ألح على أخته عدم فتح نوافذ البيت، أو الصعود إلى السطح، إلا أنها لم تلتزم بخوفه، وحدث ما حدث.

ويحمل نصر الترتيب الأخير في عائلته، فقد أبصر النور برفقة أخته عام 2005، وتسبقه أخواته تقوى وميس وفرح، لكنه ترك قلب أمه يطفح بالحزن.

وأشارت إلى أن أمه وفاء لم تستوعب بعد ما حدث، وأسرعت بعد ساعات إلى قبره، وبقيت تنكر ما وقع، وتخبر المعزيات بأن بكرها ووحيدها سيعود، وأنها ستجبره على الزواج لتفرح بأولاده، وهو ما صار الآن من سابع المستحيلات.

وأضافت زكانة، الحاصلة على الدكتوراة في العلوم السياسية والمحللة الإخبارية: أن آخر موقف جمعها بنصر كان سؤاله لها عن التوقيت المحتمل لوقف الدماء في غزة، فقد كان يبكي كلما يشاهد أخبار المجازر فيها.

وأقفلت: يدرس نصر رفقة شقيقته مرح المحاسبة في الجامعة العربية الأميركية، ورافقه الحلم بتدشين مشروعه الخاص بعد التخرج، لكن كل شيء انتهى، وكأن الأحلام ممنوعة.

- 19 عاشقًا

ووفق رئيس البلدية أحمد زكارنة، فإن قباطية التي تضم 36 ألف مواطن تتقاسم الأحزان معًا، ويعيد المحتلون فتح جروحها في مناسبات كثيرة.

وأكد أن علاقة البلدة بالنضال قديمة، فقد ودعت عشرات الشهداء خلال انتفاضة الحجارة، وسبقهم شهداء خلال النكبة والنكسة، مثلما تبعهم كثر إبان انتفاضة الأقصى عام 2000.

وأوضح زكارنة أن مجالس العزاء للشهداء ظلت حاضرة في البلدة طوال سنة عصيبة، وبالكاد خرج المعزون في هدنة. بينما يؤدي المشيعون الصلاة في أربعة مساجد، ويودعون الشهداء في خمس مقابر منتشرة في جهاتها الأربع.

وقال عقب أحدث مسيرة تشييع: إن "قباطية بكت خلال فترة قصيرة أحد عشر شابًا على دفعتين، وأن بيت عزاء السبعة، رغم وجود أربعة من الشهداء في ثلاجات الاحتلال، توزعوا على عائلات البلدة".

فيما يعمل أحمد أبو الرب، وهو شاب عشريني جامعي، على تدوين أسماء شهداء البلدة في العام الأخير، ويدون بجوار 19 اسمًا قصة لأصاحبها.

واستهل أبو الرب الأحزان مع تشرين الأول 2023، الذي أفقد البلدة أربعة شبان: محمود محمد سباعنة، وأحمد محمد سباعنة، وأنس رائد مناصرة، وعبيدة خالد كميل، مشيرًا إلى أن تشرين الثاني الماضي كان حزينًا، إذ خسرت البلدة طبيبها شامخ كمال أبو الرب، بعد وقت قصير من التحاقه بعمله في إحدى مستشفيات جنين.

ووثق أوجاع البلدة في نيسان 2024، حين ودع الأهالي ربيع فيصل زكارنة، وتكرر الحال في حزيران بارتقاء قيس محمد زكارنة، بينما حزنت البلدة على أيهم سمير زكارنة في آب الماضي.

وأوضح بأن 19 أيلول الماضي كان ثقيلاً على قباطية، إذ تجرعت علقم غياب سبعة شبان بين عشية وضحاها هم: محمد عمر كميل، ومحمد خالد أبو الرب، ومصطفى فيصل زكارنة، وعمر حمزة أبو الرب، وأحمد عبد الحميد زكارنة، وفادي جودت حنايشة، وشادي سامي زكارنة، واصفًا الشهداء التسعة عشر بالمسك، الذي يضيف لأزهار الأقحوان وشقائق النعمان المشهورة في جبال البلدة المزيد من المسك.

- كيمياء ودم

فيما فسر رئيس البلدية السابق علي زكارنة، "كيمياء قباطية" التي ينخرط أهلها في النضال منذ الثورات السابقة، لاتساع شريحة الشباب فيها، وتشكيلهم نسبة كبيرة مقارنة بغيرها.

وأفاد بأن عائلات قباطية كلها متشابكة بعلاقات مصاهرة، وهو ما يتضح من اتساع رابطة الدم وامتدادها عبر أسر البلدة، وتوحدها وتكافلها في الظروف العصيبة، وتميزها بعلاقات تاريخية.

وأكد أن البلدة تنتقل مع كل انتفاضة ومواجهة مع العدوان من حالة حزن إلى أخرى، لكنها تتضامن وتتكافل وتتقاسم الحلو والمر، ويشارك الغالبية في مسيرات التشييع والصلوات على الشهداء، كما يصر كبار السن على المشاركة في الوداع والصلوات.

ووفق زكارنة، فإن جرح قباطية الأثقل كان في 19 أيلول الفائت، حينما خسرت سبعة من فلذات أكبادها بين عشية وضحاها، وهو حدث قاس لن يمحى من الذاكرة.