يمتد عمر البيوت في الأحياء الأثرية في محافظة القطيف الواقعة شرق السعودية إلى أكثر من 400 سنة، وتشترك عناصر بناءها مع قوانين فن العمارة الإسلامية إلا أن أسلوب البناء ينسجم مع الهوية القطيفية.
ويأتي تأثر المجتمعات الإسلامية بهذا الفن المعماري نتيجة تقارب البيئات، والحركة التجارية التي نقلت بعض الأساليب المعمارية والزخارف، واحتلت القطيف موقعاً استراتيجياً متوسطة هذه الحركة التجارية بين بحر العرب والبحر الأحمر في مسار القوافل الوافدة عليها، والمنتقلة منها.
وأكد الباحث المعماري التراثي "إسماعيل هجلس"، جمالية تناقل الثقافة المعمارية في زخرفة البيوت بين المجتمعات العربية، وعناية المجتمع القطيفي بهذا التكوين فيها، وبالتالي نقل هذا الفن إلى الشعوب الأخرى التي تفتقر مساكنها إلى هذا الأسلوب الهندسي في النقوش والزخارف المزينة للبيوت الأثرية، والتي وجدت بطرقها الخاصة وحساباتها الهندسية، وبارتفاعات معينة، ومواقع "كوّات".
بماذا تميزت بيوت الطين؟
وتميزت بيوت القطيف الأثرية بأنواع زخارف مشتقة من البيئة الزراعية القطيفية الأصيلة والتي تعرف بأسماء خاصة بكل منها، كاللوزية والمروحية، والشجرية، والورقية والموزية، أو "البيدانة".
وتعد الزخارف الجصية الموجودة في هذه البيوت، مكونة من مادة الجص أو الحجارية البحرية "الفروش"، وهي مادة سهلة التطويع.
القطيف تميزت بكونها كانت تقع وسط واحة تتوسط الدول الخليجية، وهي نقط اتصال بين الدول خارج بحر الخليج العربي، وبين المناطق الداخلية كالأحساء ونجد والمناطق الغربية، فاستقبلت ثقافات متعددة تم إسقاطها على البيوت القطيفية الأثرية.
وقال هجلس: "أهم ما امتاز به البيت القطيفي احتواء البيت للعائلة القطيفية بشكل عمودي طلباً للراحة والخصوصية والأمان وهذا الشكل تفردت به القطيف والبيوت في دول الخليج، باعتمادهم على تواجد "الحوش" وهو فناء مفتوح على السماء يتوسط عادة البيت وهذا العنصر مهم لحفظ الخصوصية ويرجع ذلك لأن البيت يكون محاطاً بجدران البيوت المجاورة من الخارج، كما يمتاز بكون الدور الأرضي لا يتضمن أي نوافذ لمنع اختراق الخصوصية، وذلك لكون الأزقة بين البيوت ضيقة وتعرف باسم "زرنوق"، واستبدلت النافذة بـ"الكوات" وهي فتحات لتهوية الغرفة القطيفية وتقع بين الجدار والسقف".
وحول نوع المواد التي تبنى بها: "اشتقت مواد البناء في البيت القطيفي من نفس البيئة، وتباينت بين الحجارة البحرية "الفروش"، والطين، والتي تتناسب مع طقس المنطقة، وهي ما تجعل البيت القطيفي بارداً نهاراً، ومعتدلاً، ويرجع ذلك للعزل الذي يأتي من سماكة الجدران المانعة لاختراق الحرارة لداخل البيت، كما تتحرك التيارات الهوائية بين الفناء "الشمسة" مع الحوش "الحوي"، فتنخفض التيارات الباردة للأسفل وترتفع الحارة للأعلى".
بيت الجشي
ويستأنف هجلس حديثه بالاستشهاد ببيت الجشي الذي يعد من أكبر وأرفع البيوت التاريخية في محافظة القطيف وهو بيت يتجاوز عمره 400 عام. يتكون من خمسة أدوار، كانت تسكن فيه عدة عوائل، كل عائلة لها جزء من المنزل، حيث تجتمع الشقق في فناء واسع يتمركز في وسط المنزل.
وقال الباحث إسماعيل عنه: "استمر العيش في بيت الجشي حتى بدايات القرن الحادي والعشرين، ويقع في ديرة جزيرة تاروت، ومسمى "الديرة" يعني أقدم مساحة مسكونة في المنطقة، ويعد بيت الجشي في مستوى القصور في تلك الحقبة الزمنية. وترجع أصول عائلة الجشي إلى قلعة القطيف، وهم من "الطواشين" تجار اللولو".
وأضاف: "تضمن بيت الجشي نقوش كتابية بآيات القرآن، وزخارف نباتية، وزخارف هندسية، وزخارف على شكل مرشات الماء والبخور، يوجد في البيت العديد من الأقواس التي تعبر عن جمالية البناء. تدخل جميع العوائل الخمس من مدخل رئيس مشترك يمتاز بوسعه ورحابته. استخدم في تسقيف المسكن أسعف النخل. تم تصميم الدرج الداخلي بشكل حلزوني. كما اشتمل المسكن على مدخل لدخول السيارة بداخله، وتميز بيت الجشي بتنوع التفاصيل المعمارية المتقنة كالفراغات و(الدهليز والصاباط والأقواس) المدببة والمفصصة والقمرية بالإضافة لبهاء ودقة وتنوع وكثرة الزخارف الجصية بأنواعها".
وفي نفس الجانب، عادة ما يستخدم في هذه القصور "الركوة" للاستحمام وغسيل الملابس والصحون، ويكون مستواها بمستوى الأرض وهو مكان تجمع مياه المطر، وهو نوع من الآبار عمقه 15 متراً. في حين أن الأقل في المستوى المعيشي يقصدون العيون والمجاري المائية لهذا الغرض.
البيت القطيفي
وحول تفاصيل البيت القطيفي تطرق هجلس إلى أن الأهالي قديماً يعمدون أحياناً إلى استيراد بعض الأخشاب من الهند لصناعة الأبواب، والذي يقوم على تنفيذها نقاشين ونحاسين، ونجارين وهي حرف قديمة في القطيف. بينما تعد الأبواب الملونة دخيلة على المنطقة منذ 90 سنة، ما عدا المناطق الغربية والجنوبية في السعودية فأبواب البيوت الأثرية تكون ألوانا أصيلة مشتقة من نفس البيئة. في حين يعمد أهالي القطيف إلى إدخال اللون الأزرق والفيروزي والأخضر بسبب قربها من هويتهم البحر والزراعة، وكانت تستجلب ألوان بيروتية عن طريق البحر من أميركا بعد النفط في المنطقة.
كما ذكر هجلس أن البيت القطيفي يزخرف بزخارف مشتقة من بيئة القطيف وهويتها التراثية، وتدمج الزخارف بأشكال متعددة، تتكرر بحسب فكرة الرسم، وكونها حرفة بصنع اليد وليست قوالب جاهزة فلا يمكن أن تتشابه.
ووصف تكوين الغرف القطيفية داخل البيت يإضافة "الشندل" إلى السقف ويعتبر خامة جديدة تم اقتباسها من الدولة الإفريقية تنزانيا، وتعد دعامة لتقوية البيت، وعادة ما تكون بطول أربعة في ثلاثة أمتار. بالإضافة إلى "الروزنة" وهي الرف الذي يزين جدران الغرف ويستخدم لتنظيم الحاجيات والملابس، كما أنها تخفف الوزن على الطابق السفلي، وتقلل تكلفة استخدام الحجارة على مالك البيت.
ولفت هجلس إلى أنه في الأحياء التاريخية لبعض المدن السعودية تبنى نوافذ البيوت للداخل "عمق الجدار للداخل" والغرض الحماية من دخول مياه الأمطار، ولكن نوافذ البيوت في الطراز القطيفي تبنى للخارج "عمق الجدار للخارج" بسبب الأجواء الحارة صيفاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها