الأخلاقُ مجموعةٌ من القيمِ والسلوكيّاتِ الفرديةِ والجماعيّةِ التي تلتزمُ بمعيارٍ واحدٍ وهو التّفريقُ بين الخيرِ والشّرِّ أو بينَ الخطأ والصّوابِ. وليس هناكَ وصفةٌ سحريّةٌ تحدّدُ ما هو أخلاقيٌّ وما هو مناقضٌ للأخلاقِ، فلم يتوصّل البشرُ عبرَ آلافِ السنينِ إلى التوافقِ على صيغةٍ واحدةٍ تصلحُ للتطبيقِ بمعزلٍ عن الثّقافةِ والتاريخِ والمعتقداتِ الدينيّةِ والفلسفيّة. وعلى الرّغمِ من ذلكَ فإنَّ هناكَ مجموعةً من الممارساتِ التي تحظى بالإجماعِ كسلوكٍ أخلاقيٍّ يمقتُ الناسُ نقضَهُ أو ممارسةَ ما يتعارضُ معهُ، فلا يوجدُ مجتمعٌ أو ثقافةٌ أو فلسفةٌ أو دِينٌ يقبلُ القَتلَ أو السّرقةَ أو الخيانة. وقد شغلَ الفلاسفةُ أنفسَهم بالبحثِ في علمِ الأخلاقياتِ (Ethics) وهي كلمةٌ مشتقّةٌ من الكلمةِ اليونانيّةِ (Ethos) أي الشّخصية. وهذا الرّبطُ بينَ الأخلاقيّاتِ والشخصيّةِ هو الذي يجعلُ من هذا العلمِ مقياسَ انسجامِ سلوكِ الفردِ مع ذاتِهِ أو ضميرِهِ الذي يضعُ حدوداً فطريّةً غرائزيّةً للتمييزِ بينَ الخيرِ والشرِّ، وهي حدودٌ تتجاوزُ مجرّدَ كونِها وليدةَ "ضميرِ" الفردِ، لأنّها أيضاً نتاجُ عواملَ خارجيّةٍ عديدةٍ تؤدي إلى صياغةِ ضوابطِ السّلوكِ الأخلاقيِّ وربطِها بالثقافةِ والدّينِ وغيرِهِما من المؤثّراتِ التي تُشكّلُ الوعيَ الشخصيَّ والجمعيَّ وتضعُ تعريفَها للخيرِ والشر.

 

تُعتبَرُ الأخلاقيّاتُ معيارَ تصالحِ الفردِ معَ ذاتِهِ وانسجامِهِ مع محيطهِ، وهذا ما دفعَ الإنسانَ إلى صياغةِ اللوائحِ الأخلاقيّةِ المنظّمةِ لممارسةِ المِهنِ المختلفةِ، وهو ما يشملُ الطّبَّ والصحافةَ والفنَّ المعماريَّ والتجارةَ في "بازارات" وأسواقِ القرى والمدنِ أو بينَ الشعوبِ والدّولِ. وأهمُّ ما يميّزُ تلكَ اللوائحَ هو صفتُها الشّموليّةُ، فالقواعدُ الأخلاقيةُ لممارسةِ مهنةِ الطّبِ في فلسطين لا تختلفُ عن تلكَ المنظِّمةِ لعملِ الأطّباءِ في الهندِ أو في كندا. هذا يقودُنا إلى النتيجةِ الأكثرَ أهميّةً في سياقِ فهمِنا للمسؤوليةِ الأخلاقيّةِ، وهو التفريقُ والفصْلُ بينها وبينَ المسؤوليّةِ القانونيّةِ، فبينما يلتزمُ علمُ الأخلاقِ بأولويّةِ وقدسيّةِ الحفاظِ على حياةِ الإنسانِ واحترامِها كقيمةٍ مطلَقةٍ، يمكنُ للمشَرّعينَ في هذه الدّولةِ أو تلكَ أن يسنّوا قانوناً يبيحُ الإجهاضَ أو قطعَ يدِ السّارقِ أو رَجْمَ الزّاني. وليسَ في هذا انتقاصٌ من قدرةِ علمِ الأخلاقِ على القيامِ بدورِ الرّقيبِ وأداةِ القياسِ لكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في كلِّ تجمّعٍ بشريٍّ أو مجتمعٍ، وإنما هو تأكيدٌ على أنَّ الأخلاقَ ليست مفهوماً مطلقاً يعملُ خارجَ نطاقِ الثقافةِ والدّينِ والقانونِ.

 

يتّفقُ النّاسُ كما قلنا على عددٍ من القضايا الأخلاقيّةِ ويجعلونَ منها مسلّماتٍ لسلوكِ الأفرادِ والمجتمعاتِ والمنظّماتِ المهنيةِ والأحزابِ وغيرِها. وهناك العديدُ من المدارسِ التي تحاولُ فهمَ الأخلاقيّاتِ من جوانبَ مختلفةٍ، فبينما يستندُ التفسيرُ الدينيُّ إلى أولويّةِ "النيّةِ" كمقياسٍ للتمييزِ بينَ السلوكِ الأخلاقيِّ ونقيضهِ بغضِّ النّظرِ عن نتيجةِ هذا السّلوكِ، يرى أصحابُ المدرسةِ "الواقعيّةِ" أنّ الأمورَ تُقاسُ بنتائجِها وأنّ النتيجةَ الخيّرةَ لعملٍ ما هي التي تحدّدُ مدى توافقِهِ مع الأخلاقِ، حتى لو كانَ الدّافعُ أو "النيّةُ" المحرّكةُ لمن قامَ بهِ غيرَ أخلاقيّ، فلا يمكنُ للقانونِ مثلاً أنْ يحاكمَ المتّهمَ حسب "نواياهُ" وإنّما بناءً على ما تسبّبَ بهِ فعلُهُ من نتائج. وهنا لا بدَّ من التنويهِ إلى أنَّ التزامَ الإنسانِ بالمعاييرِ الأخلاقيّةِ ليسَ حُكماً مُطلقاً معزولاً عن الظّروفِ والعواملِ الأخرى، فبينما يُجمعُ الناسُ على القاعدةِ الأخلاقيةِ "لا تقتُلْ!" إلّا أنّ الدّفاعَ عن النّفسِ أو الوطنِ يُسقِطُ هذا الأمرَ ويجعلُ قتْلَ المعتدي واجباً لتجنّبِ الشرِّ المُطلَقِ الذي يحملُهُ العُدوانُ بصفتِهِ عملاً لا أخلاقيّاً تفوقُ ضرورةُ التصدّي لهُ واجبَ الالتزامِ الأخلاقيِّ بعدمِ القتل. 

 

*ليس من حقِّ أحدٍ تقييمُ سلوكِ غيرِهِ وتجريدُهُ من الغطاءِ الأخلاقيِّ، فالأخلاقُ ليست نصّاً قانونيّاً نستندُ إليهِ للاقتصاصِ منْ مجرمٍ أو لمعاقبةِ سارقٍ، وإنّما هي أداةُ انسجامِ الإنسانِ معَ نفسِهِ أوّلاً ومعَ منظومةِ القيمِ التي يلتزمُ بها ضمنَ مجتمعِهِ وبيئتهِ.

*(من كانَ منكُمْ بلا خطيئةٍ فليرْمِها بحَجَر).

 

٢٥-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان