اللغةُ وعاءُ الفِكرِ وأداةُ نقلِ الفكرةِ وحاضنةُ التفكيرِ، وهي أكبرُ من النحوِ والصّرفِ والطِباقِ والجناسِ، فهي عنوانُ الثّقافةِ وإطارُ شخصيّةِ الأمّةِ و"سوقُ عكاظِها". لا غرابةَ في اعتزازِ كل شعوبِ الأرضِ وقبائلِها بلُغاتِها، فبدونِ تلكَ اللّغاتِ ما كانَ لشعبٍ أو أمّةٍ أو قبيلةٍ أن تحافظَ على وجودِها وتتناقَلَ تجاربَها وكنوزَ تراثِها. لا استغرابَ إذنْ أنْ يتعاملَ العربيُّ مع لغتِهِ بصفتِها واحدةً من مكوّناتِ شخصيّتِهِ كلَوْنِ بشرَتِهِ أو عينيهِ وملامحِ وجههِ، فبدونِ اللغةِ العربيّةِ ما كانَ للأمّةِ أن تبني حضارةً عندما أمسكتْ بناصيةِ التّاريخِ وجعلتْهُ خادمَها وحارسَ خيمَتِها، ولا كانَ بإمكانِها أنْ تتمسّكَ بسرِّ وجودِها كلّما تعرضّت لاجتياحِ الغرباءٍ الذينَ كانوا يبدأونَ غزوَهم بتدميرِ ركائزِ اللغةِ والثقافةِ وما دوّنَهُ الأوّلونَ في ذاكرةِ التّاريخ.

 

اللغةُ العربيّةُ مصدرُ فخرِ المُسلمِ ولغةُ كتابِ اللهِ الذي نقلَ العربيَّ من عتمةِ الجاهليّةِ إلى ضياءِ الإيمانِ، وهي لغةُ طقوسِ الشعائرِ الدّينيّةِ لدى الطوائفِ المسيحيّةِ العربيّةِ، وهي كذلك لغةُ الانتاجِ الشعريِّ وعلومِ تفسيرِ التّوراةِ عندَ علماءِ اليهودِ في العصورِ الوسطى. علاوةً على كَونِها لغةَ الشّعراءِ الذينَ أتقنوا فنَّ مناجاةِ أرواحِنا بعد عشراتِ القرونِ من مناجاتِهم لرملِ الصحراءِ وآفاقِها اللامتناهية. لقد حافظت اللغةُ العربيةُ على بقائها ونقائها بفضل كلِّ تلكَ العواملِ، لكنَّ ما مكّنها من الازدهارِ والتطوّرِ هو مثابرةُ الناطقينَ بها على البحثِ العلميِّ والانتاجِ الأدبيِّ والثّقافيِّ، فلا شيءَ يثري اللغةَ ويرسّخُ مكانتَها الرياديّةَ مثلَ استخدامِها لصياغةِ عصارةِ الفكرِ والثقافةِ ونتائجِ البحثِ العلميِّ، ولن يستطيعَ أحدٌ على سبيلِ المثالِ أنْ يحرّفَ كلمةَ "كيمياء" أو "جبر" أو اسطرلاب"، فهي وليدةُ تجربةِ الروّادِ الناطقينَ بلغةِ الضّادِ ولهم يعودُ شرفُ اختيارِ المصطلحِ ونقشِهِ بلغتهِم في سجلِّ العِلمِ، تماماً كما خُلّدت اللغةُ بجمالِها في شعرِ إمرئ القيسِ والمتنبّي وأحمد شوقي ومحمود درويش، فلا فقْرَ يضاهي فقرَ الإنسانِ للّغةِ التي تمكّنُهُ من الغوصِ في بحرِها والتمتّعِ بكلِّ ما يملأُ خوابي التراثِ من جواهرِ.

 

الثامن عشر من كانون الأوّل/ديسمبر كلَّ عامٍ هو اليومُ العالميُّ للّغةِ العربيّةِ، ويتمُّ الاحتفالُ بهِ بقرارٍ من منظمةِ اليونيسكو تمَّ اتخاذهُ عام ٢٠١٢ احتفالاً بقرارِ الأممِ المتحدةِ في ١٨-١٢-١٩٧٣ باعتبارِ اللغةِ العربيةِ واحدةً من اللغاتِ الرسميةِ في المنظمةِ الدوليةِ بكل ما يعنيهِ ذلكَ من اعترافٍ بأهميّةِ هذهِ اللغةِ العريقةِ وبدَورِ الناطقينَ بها في مسيرةِ الحضارةِ الإنسانيّةِ وفي شؤونِ العالَمِ المعاصرِ. ومع أهميّةِ هذهِ المناسبةِ فإنَّ الواجبَ يقتضي أنْ تكونَ اللغةُ محطَّ اهتمامِنا كلَّ يومِ، فلا يمكنُ لنا أن نكتفي بالتغنّي بأهميّتها في مناسبةٍ كهذهِ ثمَّ نتجاهلَها تماماً في حياتِنا اليوميّةِ ونغرقَ في الجهْلِ الذي تسوّقهُ "وسائلُ التّواصلِ" التي تقومُ الآنِ بدورٍ مناقضٍ للدّورِ الذي مارستْهُ مراكزُ محوِ الأميّةِ، لأنّها تقتلُ اللغةَ وتكرّسُ الجهلَ بها وتُحرّفها وتنشرُ "لغةً" مستحدَثةً غريبةً هي خليطٌ من مفرداتٍ مشوّهةٍ مسروقةٍ من لغاتٍ أخرى ومن مفرداتٍ لا تمتُّ إلى لغةِ الضّادِ بصلةٍ. ولا نبالغُ حين نقولُ أنَّ تحريفَ اللغةِ وتدميرَ بنيانِها هو أحدُ المداخلِ الرئيسةِ لتدميرِ الشخصيةِ العربيةِ بكلِّ مكوّناتِها. فاللغةُ النقيّةُ هي شرطُ الخطابِ السياسيِّ الواضحِ والبسيطِ والقادرِ على مخاطبةِ العقلِ، وهي أداةُ الحوارِ وتبادُلِ الرأيِ ونقلِ التجربةِ وتناقُلِها. ونحنُ في فلسطينَ أولى من غيرِنا بإيلاءِ اللغةِ ما تستحقُّهُ من اهتمامٍ وإجلالٍ، فلا معنى لترديدِ شعار "فلسطين عربية" إذا جرّدْنا أنفُسَنا من درعِ اللّغةِ العربيةِ الذي يشكّلُ هدفاً مباشراً للاحتلالِ الاستيطانيِّ الصهيونيِّ الذي لا يتوقّفُ عن تغييرِ أسماءِ القرى والبلداتِ والمرتفعاتِ والأوديةِ وإعطائها أسماءً غريبةً عنها وعن تاريخِها، وهو بذلكَ يسعى إلى فصلِ الفلسطينيِّ عن الوطنِ ليجعلَ منهُ غريباً في أرضهِ، وهذا هو التهجيرُ الفعليُّ والأشدَّ خطورةً على حاضرِ شعبِنا ومستقبلِه.

 

*قرارُ الأممِ المتّحدةِ في الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر ١٩٧٣ باعتبارِ اللغةِ العربيةِ واحدةً من لغاتِها الرسميةِ هو الذي مكّنَ قائدَنا ورمزَنا أبو عمّار من مخاطبةِ العالَمِ بلغةٍ عربيّةٍ واضحةٍ حاسمةٍ لا تقبلُ التحريفَ أو التأويلَ، ولا زال الصّدى يُردّدُ وراءهُ: لا تُسقِطوا الغُصنَ الأخضرَ من يدي! لا تُسقطوا الغُصنَ الأخضرَ منْ يدي!

 

١٨-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان