إذا قمتَ بإلقاءِ ضفدعٍ في ماءٍ يغلي فسيقفزُ مذعوراً من هولِ الصّدمةِ ثمّ يفارقُ الحياةَ فوراً. في المقابلِ يمكنُ وضعُ الضفدعِ في وعاءٍ ثمَّ تُرفَعُ حرارةُ الماءِ تدريجيّاً حتى تصلَ إلى درجةِ الغليانِ، وهنا سيكونُ مصيرُ الضفدعِ مشابهاً لمصيرهِ في التجربةِ الأولى، لكنّهُ لنْ يقفزَ أو ينتفضَ وإنّما سيستكينُ ويتأقلمُ مع حرارةِ الماءِ دونَ أن يشعرَ أنّها تقتُلهُ رويداً رويداً.
لم تكنْ زيارةُ الرئيسِ المصريِّ الرّاحلِ أنور السادات إلى القدسِ يوم ١٩-١١-١٩٧٧ سوى تتويجٍ لمرحلةٍ طويلةٍ من تجربةِ "رفعِ درجةِ حرارةِ الماءِ" التي أخضِعَ لها العقلُ العربيُّ منذُ أن بدأ الحديثُ عن إمكانيّةِ الاعترافِ بدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ والتّعاملِ معها كأمرٍ واقعٍ. ولسنا هنا في واردِ محاكمةِ التّاريخِ، لأنّ كَيْلَ الاتهاماتِ للماضي لن يغيّرَ من أمرهِ شيئاً، كما أنَّ محاكمةَ التاريخِ بناءً على ما نملكهُ اليومَ من معطياتٍ هي عمليةٌ تفتقدُ إلى الأمانةِ والإنصافِ، وإلّا فما أسهلَ أنْ نلومَ اليومَ كلَّ من عارضوا فكرةَ تقسيمِ فلسطينَ ولم يقبلوا بدولةٍ على جزءٍ منها يُعتبَرُ الآنَ مطلباً صعبَ المنالِ. انطلاقاً من هذا الفهمِ يجبُ التعاملُ مع زيارةِ السّاداتِ إلى القدسِ، وهي التي شكّلت في حينها نقطةً فارقةً في تاريخِ الصّراعِ العربيِّ-الإسرائيليِّ ليُصبحَ وصفَهُ الحقيقيَّ بعدَ الزيارةِ الصّراعُ الفلسطينيُّ-الإسرائيليُّ بعدَ أن أخرَجت الدّولُ العربيّةُ نفسها طوعاً من هذا الصّراعِ وتركت شعبَنا وحيداً في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِّ.
لقد جاءت الزّيارةُ في حينها استكمالاً للمفاوضاتِ التي رعاها وزيرُ الخارجيةِ الأمريكيّةِ هنري كيسنجر بعدَ حرب اكتوبر ١٩٧٣، والتي سُمّيت في حينِها بالمفاوضاتِ المكّوكيةِ، حيثُ تنقّلَ كيسنجر بين دولِ المنطقةِ ودولةِ الاحتلالِ حتى أنجزَ ما يُعرفُ باتفاقياتِ فضِّ الاشتباكِ، وفيما يخصُّ الجبهةَ السوريةَ فهي اتفاقيةٌ ما زالت تشكّلُ أساسَ الهدوءِ الذي يخيّمُ على حدودِ الجولانِ حتى اليوم. لقد كرّست الإدارةُ الأمريكيّةُ كلَّ إمكانيّاتِها للوصول إلى إخراجِ مصرَ من دائرةِ الصّراعِ وحصرِ الاهتمامَ المصريَّ بأراضيها المحتلّةِ وبإعادةِ فتحِ قناةِ السّويس أمامَ الملاحةِ الدّوليّةِ. وإذا استخدمنا مقاييسَ اللحظةِ التي نعيشُها الآنَ فإنّ استعادةَ مصرَ لشبهِ جزيرةِ سيناءَ يعدُّ إنجازاً وطنيّاً، رغمَ ما يحيطُ باتفاقياتِ كامب ديفيد من انتقاداتٍ وما يعتريها من نواقص. لكنَّ تقييمَ الموقفِ من زيارةِ السّاداتِ يجبُ أنْ يستندَ إلى المعطياتِ المتوفرّةِ قبل ٤٢ عاماً والتي ما كانَ لها إلّا أن تقودَ الموقفَ الفلسطينيَّ إلى معارضةِ الزّيارةِ ورفضِ التعاملِ مع نتائجها.
لقد دفعَ شعبُنا ثمناً باهظاً لحالةِ التردّي التي عمّت العالمَ العربيَّ بعدَ زيارةِ القدسِ وما تبعها من إنهاءِ التضامنِ العربيِّ الذي شكلَ حاضنةَ حربِ أكتوبر ١٩٧٣ ورافعةَ الإنجازاتِ السياسيّةِ التي حقّقتها منظمةُ التحريرِ الفلسطينيّةُ على الساحتينِ العربيّةِ والدّولية. ويمكنُ القولُ إنّ فلسطينَ قد دفعت ثمنَ الشّرخِ الذي عصفَ بالأمةِ العربيةِ، ففي ظلِّ صراخِ الرافضينَ للزيارةِ جرى الاستفرادُ بالشّعبِ الفلسطينيِّ في معركةِ بيروت ١٩٨٢، وفي خضمِّ الشعاراتِ القوميةِ نفَّذَ "القوميّون" الانشقاقَ داخلَ حركةِ "فتح" وقاموا باغتيالِ خيرةِ قادتِها وكوادرِها. وهنا لا بدَّ من التأكيدِ على وعي القيادةِ الفلسطينيّةِ المبكّرِ لخطرِ عزلِ مصرَ وإخراجها من معادلةِ الصّراعِ مع العدوِّ، وهو ما سرّعَ بالفكاكِ من قيودِ جبهةِ الرّفضِ الكاذبِ والتّوجهِ مجدداً نحو مصرَ لتعودَ إلى ممارسةِ دورِها التاريخيّ تجاهَ فلسطين. هكذا يجبُ أن نفهمَ زيارةَ الزعيمِ الخالد أبو عمّار إلى مصرَ وهو خارجٌ من حصارِ طرابلس الذي فرضهُ النظامُ السوريُّ وأدواتُه عام ١٩٨٣. فقد كانت تلكَ الزيارةُ أهمَّ خطوةٍ تتخذها القيادةُ الفلسطينيّةُ لتعديلِ موازينِ القوى التي اختلّت بخروجِ مصرَ من الصراعِ مع العدوِّ وبإخراجِ قوّاتِ الثورةِ الفلسطينيّةِ من لبنانَ وتشتيتِها في المنافي البعيدة. وقد وصفَ الشهيدُ أبو عمار زيارتهُ إلى مصرَ حينها بالقولِ: كانوا يعدّونَ الطاولةَ لإعلانِ موتِنا وقمتُ بهذهِ الزيارةِ بقَلْبِ الطاولةِ فوقَ رؤوسِهم.
*لم يكن الموقفُ الفلسطينيُّ من زيارةِ القدسِ وما تبعها موقفاً جامداً يستخدمُ نفسَ أدواتِ القياسِ في كلِّ الأوقاتِ وبغضِّ النّظرِ عمّا يحيطُ بنا من ظروفٍ، لكنّهُ موقفٌ جريءٌ في الرّفضِ عندما كانَ الرّفضُ تعبيراً عن التّمسّكِ بالثّوابتِ، وموقفٌ عمليٌّ لا يرتهِنُ إلّا لمصلحةِ شعبِنا وإلى استنهاضِ طاقاتِ الأمّةِ لمساندةِ شعبِنا حتّى عندما تكونُ الأمّةُ في أصعبِ حالاتِ الانقسامِ والتشرذم. فمصلحةُ فلسطينَ هي البَوصلة.
١٩-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها