يسألُ بعضُ الخبثاءِ: ماذا جنينا من وراءِ إعلانِ الاستقلالِ ونحنُ ما زلنا تحت الاحتلالِ ولمْ نفرضْ سيادَتنا على أرضِ الدّولةِ الفلسطينيةِ؟
يخفي هذا السؤالُ جهلاً لحقيقةِ النضالِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ أو تجاهلاً لتلك الحقيقةِ، فلم يكن إعلانُ الاستقلالِ الذي تلاهُ الشهيدُ الخالدُ أبو عمّار في ١٥ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٨٨ يعني بالضرورةِ الانتقالَ إلى أرضِ الوطنِ بين عشيّةٍ وضحاها أو إجبارَ المحتلِّ الإسرائيليِّ على الانسحابِ الفوريِّ منها، ومن يعتقدُ أنَّ هذا الهدفَ يسهلُ تحقيقُهُ فهو لا يفقهُ طبيعةَ الصراعِ مع المشروعِ الصهيونيِّ في فلسطين، وهو صراعٌ أخذت حركةُ "فتح"، عبرَ قيادتِها لمنظمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ، على عاتقِها مسؤوليةَ إعطائهِ مضمونَهُ السياسيَّ وبُعدَهُ الوطنيَّ الشّاملَ. فقد بدأَ المشروعُ الصهيونيُّ وقُدّرَ لهُ النّجاحُ في بداياتِهِ نتيجةً للتغييبِ القسريِّ والمتعمّدِ لوجودِ الشّعبِ الفلسطينيِّ وما ترتّبَ على هذا التغييبِ من إنكارٍ وتنكّرٍ للحقوقِ السياسيّةِ التي يتمتّعُ بها شعبُنا أسوةً بالشّعوبِ الأخرى. من هنا كان الهدفُ الأوّلُ للحركةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ ولرائدتِها حركةِ "فتح" هو تثبيتُ الشّخصيةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ وفرضُ الاعترافِ الدّوليِّ بالشعبِ الفلسطينيِّ بكلِّ ما يترتّبُ على هذا الاعترافِ من تبعاتٍ سياسيّةٍ، في مقدّمتِها حقُّ شعبِنا بالحريةِ والاستقلالِ الوطنيِّ.
كانت الانتفاضةُ الأولى تجسيدًا للسيادةِ الشعبيةِ على الأرضِ، وهي انتفاضةٌ شكّلت تتويجًا لمرحلةٍ طويلةٍ من الكفاحِ المسلّحِ انطلاقًا من قواعدِ الثورةِ في دولِ "الطّوقِ"، ونقلت مركز ثقلِ المقاومةِ إلى داخلِ الوطنِ. لكنّها لم تكتفِ بذلكَ، بلْ غيّرتْ أدواتِ الكفاحِ وابتكرتْ ما يتلاءمُ من حربِ الشّعبِ التي تتجاوزُ مرحلةَ العملِ الفدائيِّ النخبويِّ لتنتقلَ إلى مشاركةِ الغالبيةِ العظمى من أبناءِ الشّعبِ في العملِ المقاوِم. من هنا جاءَ إعلانُ الاستقلال، فهو تتويجٌ لمرحلةِ الكفاحِ المسلّحِ مثلما هو تمهيدٌ للانتقالِ بثقلِ الحركةِ الوطنيّةِ إلى أرضِ فلسطينَ، كما أنّه اعترافٌ بما أنجزتْهُ الانتفاضةُ على الأرضِ وما أحدثتْهُ من تغييرٍ نوعيٍّ في أشكالِ النضالِ وأدواتِه. ولا يمكنُ فهمُ طبيعةِ اتفاقيّاتِ أوسلو إلّا ضمنَ هذا السياقِ، فهي تتويجٌ لإنجازاتِ الانتفاضةِ الكبرى ولمرحلةِ الكفاحِ المسلّحِ في آنٍ واحد، وبعبارةٍ أخرى يمكنُ القولُ إنَّ إعلانَ الاستقلالِ كان الممرَّ الإجباريَّ والطبيعيَّ للعبورِ بالمشروعِ الوطنيِّ من مرحلةِ الكفاحِ المسلّحِ في الخارجِ إلى مرحلةِ النضالِ الشعبيِّ الجماهيريِّ داخلَ الوطنِ لتثبيتِ السيادةِ الوطنيةِ فوقَ أرضِ الدولةِ التي حدّدها إعلانُ الاستقلال.
علينا أن لا نغفلَ الدّورَ الذي لعبَهُ إعلانُ الاستقلالِ في وضعِ حدٍّ لادّعاءاتِ أعداءِ شعبِنا بأنَّ الدّولةَ الفلسطينيّةَ لم يكنْ لها وجودٌ عبرَ التاريخِ. وهنا لا بدَّ من التأكيدِ على أهميّةِ اللجوءِ إلى الخطواتِ المتتابعةِ التي تبني كلُّ واحدةٍ منها أسُسَ الخطوةِ التاليةِ. لقد ركّزَت الثورةُ الفلسطينيّةُ في بداياتِها على حشدِ التأييدِ والدّعمِ للعملِ الفدائيِّ بما يكرّسُ حقَّ شعبِنا بالمقاومةِ ضدَّ الاحتلالِ ومن أجلِ انتزاعِ حقوقهِ. وكانت الخطوةُ التاليةُ هي انتزاعُ الاعترافِ الدوليِّ بمنظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ كممثّلٍ وحيدٍ للشعبِ الفلسطينيِّ، وهو هدفٌ قدّمَ شعبنا من أجلهِ آلافَ الشهداءِ والجرحى والأسرى، واستمرَّ النضالُ حتى تمَّ تكريسُ المنظمةِ كحقيقةٍ راسخةٍ لا يمكنُ تجاوزُها سواءً عبرَ الاجتياحِ الإسرائيليِّ للبنانَ أو عبرَ الانشقاقاتِ والاغتيالاتِ التي رعتْها ونفَّذتْها الأنظمةُ العربيّةُ الساعيةُ إلى مصادرةِ القرارِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ المستقل. وقد كانَ إعلانُ الاستقلالِ تتويجًا لمرحلةِ الاعترافِ بمنظمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ، لذلكَ سارعتْ دولُ العالَمِ التي سبقَ لها الاعترافُ بالمنظمةِ إلى الاعترافِ بالدّولةِ الفلسطينيّةِ، ولو لمْ تفعلْ لكانتْ تناقضُ نفسَها، فالاعترافُ بالمنظّمةِ يعني الاعترافَ بكلِّ ما تتخذُهُ من قراراتٍ وما تقرُّهُ من أهدافٍ وبرامجَ تتوافقُ مع الشّرعيةِ الدوليةِ وتتطابقُ مع الحقوقِ الوطنيةِ لشعبِنا، وهي حقوقٌ سبقَ أن تمَّ تثبيتُها عبرَ سلسلةٍ من القراراتِ الدوليةِ، وهذا ما شكلَ أرضيةً قانونيّةً لإعلانِ الاستقلالِ الذي يعتَبرُ أهمَّ حقيقةٍ كرّستها منظمةُ التحريرِ الفلسطينيّةِ كقاعدةٍ نستندُ إليها في نضالنا نحو الحريّةِ والاستقلالِ الوطنيِّ.
*إعلانُ الاستقلالِ هو تتويجٌ لمرحلةِ الكفاحِ المسلّحِ وإقرارٌ بالدّورِ التاريخيِّ الذي قامت به الانتفاضةُ الأولى والذي نقلَ ساحةَ النّضالِ إلى أرضِ الوطنِ. وعلينا التعاملُ مع المقاومةِ الشعبيةِ كامتدادٍ لما سبقها من مراحلِ الكفاحِ التي تهدفُ بمجملِها إلى إنجازِ مشروعِنا الوطنيِّ الذي وضعَ أسُسَهُ إعلانُ الاستقلال.
١٥-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها