قبلَ ستّةٍ وأربعينَ عاماً سجّلَ الجيشان المصريُّ والسّوريُّ صفحةً مشرقةً في تاريخِ الصّراعِ مع دولةِ الاحتلالِ والاستيطانِ والتوسُّعِ الإسرائيليّةِ، وخلالَ ساعاتٍ قليلةٍ انهارت نظريّةُ الأمنِ الإسرائيليِّ وتحطّمَّ "خطُّ بارليف" على الضفّةِ الشّرقيّةِ لقناةِ السّويس، وهو الذي تمَّ الترويجُ له كأقوى التّحصيناتِ العسكريّةِ بعدَ الحربِ العالميّةِ الثّانية، والذي ظنَّ المحتلُّ الإسرائيليُّ أنّهُ عصيٌّ على الاقتحامِ. 

 

ولعلَّ النّتائجَ النّفسيّةَ والسّياسيّةَ التي حقّقها الجانبُ العربيُّ في تلكَ الحربِ لا تقلُّ شأناً عمّا أنجزهُ الجنديُّ والفدائيُّ في ميدانِ القتالِ، وقد كانت الحربُ تجربةً فريدةً توقّفَ أمامَها الخبراءُ والمحلّلون وخاصّةً ما تمَّ استخدامُهُ فيها من عناصرِ التّمويهِ وتضليلِ العدوِّ ومن تقنيّاتٍ بسيطةٍ وناجعةٍ للتغلّبِ على العقباتِ والموانعِ والتحصيناتِ الإسرائيليّة. وبعيداً عن رأيِ الخبراءِ "الاستراتيجيّين" يجبُ التوقّفُ عندَ الدّروسِ المُستقاةِ من تلكَ الحربِ من وجهةِ نظرِ الإنسانِ العربيِّ العاديِّ والبسيط المُحبِّ لوطنِهِ والملتزمِ بفلسطينَ كأولويّةٍ لا تزاحِمُها على مكانتِها قضيّةٌ أخرى.

 

الدّرسُ الأوّل: 

امتلاكُ الإرادةِ هو الشّرطُ الأوّلُ للتغلّبِ على المُستحيلِ، وقد كانَ قرارُ خوضِ الحربِ بالتّزامُنِ على الجبهتَينِ المصريّةِ والسّوريّةِ قراراً شجاعاً سبقهُ عملٌ دؤوبٌ لإعادةِ بناءِ الجيوشِ العربيّةِ التي تعرّضتْ للهزيمةِ والإهانةِ في عدوان الخامس من حزيران/يونيو ١٩٦٧. وحتّى ندرِكَ مدى الإنجازِ الذي تحقّقَ في تشرين/أكتوبر ١٩٧٣ علينا أن نتذكّرَ أنّ هذهِ الحربَ قد جرت بعدَ هزيمةِ حزيرانَ بما يزيدُ قليلاً عن ٦ سنواتٍ، وهي فترةٌ قياسيّةٌ تمَّ خلالَها تسخيرُ طاقاتِ الشّعبِ في مصرَ وسوريا للمجهودِ الحربيِّ على حسابِ رغيفِ الخُبزِ ولقمةِ العيشِ والبُنيَةِ التّحتيّةِ، ومع ذلكَ لم تَخرجْ مظاهرةٌ واحدةٌ تشكو من سياسةِ "شدِّ الأحزِمةِ"، لأنّ الشّعبَ كانَ على ثقةٍ أنّ تحريرَ الأرضِ لنْ يتحقّقَ دونَ تقديمِ التّضحياتِ اللازمة.

 

الدّرسُ الثاني: 

التّضامنُ العربيُّ ليسَ شعاراً فارغَ المضمونِ، بل هو سلاحٌ أثبتَ فعاليتَهُ في حربِ تشرين/أكتوبر، وهو ما تجلّى بمشاركةٍ ولو كانت رمزيّةً لوحداتٍ من جيوشِ العديدِ من الدّولِ العربيّةِ في تلكَ الحربِ وعلى جبهَتَيْها، إضافةً إلى الجبهةِ الثّالثةِ التي يتناساها بعضُ المؤرخينَ، وهي جبهةُ شمالِ فلسطينَ التي فتحتْها قواتُ الثّورةِ الفلسطينيّةِ الموجودةُ حينَها في جنوبِ لبنانَ، والتي عملتْ على إشغالِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من جيشِ العدوِّ لتخفيفِ الضّغطِ عن جبهتَيْ سيناءَ والجولان. وقد تجلّى التضامنُ العربيُّ بشكلٍ أكثرَ وضوحاً من خلال الحظرِ النفطيِّ الذي فرضَتْهُ الدّولُ العربيّةُ ضدَّ حلفاءِ دولةِ الاحتلالِ في أمريكا وأوروبا، وهنا يجبُ التذكيرُ بالدّورِ الرّائدِ الذي قامت بهِ المملكةُ العربيةُ السعوديّةُ بقيادةِ الملكِ فيصل رحمهُ الله، وهو موقفٌ شجاعٌ سيحفظُهُ التّاريخ.

 

الدّرسُ الثّالث: 

مصرُ وسوريا هما أساسُ التّضامنِ العربيِّ وعمودُهُ الفقريُّ في السّلمِ والحربِ، وهما نقطةُ الجذْبِ ومحورُ تشكيلِ موقفٍ عربيٍّ تتجمّعُ حولَهُ الدّولُ العربيّةُ الأخرى. هكذا علّمنا التاريخُ والمعاركُ المفصليّةُ ضد الغزواتِ الخارجيّةِ التي تعرّضَ لها الوطنُ العربيُّ من عين جالوت وحطّين حتى حرب تشرين/أكتوبر. نستحضرُ الآنَ هذهِ المُسَلّمةَ البديهيّةَ ونحنُ نرى ما يعصِفُ بالمنطقةِ من رياحِ الفتنةِ والاقتتالِ الدّاخليّ الذي تحرّكُهُ وترعاهُ وتحرصُ على استمرارِهِ الإدارةُ الأمريكيّةُ وحليفتُها دولةُ الاحتلالِ والاستيطانِ. وهنا لا بدَّ من التأكيدِ على أنَّ الأولويةَ الآنَ هي لإنهاءِ الصراعاتِ الدّاخليّةِ وللعودةِ إلى تصحيحِ العلاقاتِ بينَ الدّولِ العربيّةِ وإعادةِ الاعتبارِ إلى مفهومِ التّضامنِ العربيِّ الملتفِّ حولَ قضيّةِ فلسطينَ ونضالِ شعبِها لاستعادةِ حقّهِ التاريخيِّ في وطنِهِ، ولن يكونَ هذا التّضامنُ فعّالاً إلّا عندما يكونُ مبنيّاً على استعادةِ الدّورِ التّاريخيِّ للمحورِ المصريِّ- السّوريِّ المستَندِ إلى دَعمِ العُمقِ العربيٍّ بقيادةِ المملكةِ العربيّةِ السّعوديّة.

 

*ذكرى حربِ تشرين/أكتوبر هي دعوةٌ للأمةِ العربيّةِ وقادتِها من أجلِ إنهاءِ هذا الفَصلِ المُظلِمِ والدّامي الذي تمرُّ بهِ الأمّةُ، وهي نداءٌ للتّذكيرِ أنَّ الخطرَ الإسرائيليَّ الذي خاضَ العربُ تلكَ الحربَ للتّصدّي لهُ ما زالَ قائماً، وما زالَ يشكّلُ التهديدَ الرئيسَ للأمّةِ ومصالِحها ومستقبَلِها ومقدّساتِها. 

 

٦-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان