أزعم أن زيارة كيري التي أعلن عنها أثناء مغادرته المنطقة، وبعد أن قدّم "خطته" الأمنية ستكون اهم زيارة له منذ توليه للملف، بل ازعم أيضاً أن السيد كيري يمكن أن يحدث للمرة اختراقا حقيقيا أو أن يقتنع وبصورة نهائية إن الفشل والفشل النهائي هذه المرة يصبح محققاً.

إذا صحّ ما قيل من إن السيد كيري سمع كلاما واضحا من الرئيس حول "الخطة" (وأظن انه صحيح)، وإذا ما صحّ أيضاً الكلام الذي سمعه القنصل العام (وأظن انه صحيح أيضاً) فإن كيري يكون في الواقع أمام ورطة كبيرة قرأها مبكراً وأعلن عن عودته السريعة للمنطقة في ضوء هذه القراءة بالذات. وجوهر الذي سمعه كيري يتلخص بالاتي:

أولا: ليس واضحا بالنسبة لنا لماذا تصر (إسرائيل) على بقائها في حدودنا الشرقية إذا كنا نحن قد قبلنا (إذا لم نكن قد اقترحنا) إبقاء هذه الحدود بيد قوات "ثالثة" بما فيها القوات الأميركية لفترة من الوقت الذي يمكن التوافق عليه؟

ثم ما هي التهديدات الاستراتيجية من الناحية الأمنية التي "تحتم" على (إسرائيل) رفض وجود القوات الأميركية أو الأوروبية والإصرار على بقاء قواتها العسكرية!؟

كانت (إسرائيل) تتذرع بالخطر الإيراني وها هو "الخطر" الإيراني في طريقه إلى الحل والتفكيك وربما الاضمحلال، فأين هو الخطر الآن وبعد عدة اشهر؟؟

وإذا ما وُقع الاتفاق الشامل ما بين الغرب وإيران في ربيع العام القادم أو في صيفه على أبعد الحدود، فما الذي يبقى ل(إسرائيل) من حجج وذرائع حول الخطر على الجبهة الشرقية؟؟

ثم ألا تربط (إسرائيل) والأردن معاهدة سلام موقعة وثبت انها فعالة من الناحية الأمنية على مدار عقدين كاملين من الزمن؟؟

ثانيا: اذا بقيت (إسرائيل) تمتلك بيدها حق الفيتو على المعابر أفليس هذا تشريعا للاحتلال وتحويله إلى احتلال مبطن ومغلف!!؟

لماذا لا يكون "الفيتو" بيد طرف ثالث متفق عليه!! بدلاً من ان يكون بيد (إسرائيل) وحدها على سبيل المثال؟؟

ان الخطة التي طرحها كيري في الواقع هي حصيلة رضوخ أميركي للمفاهيم الإسرائيلية نفسها حول أسبقية "الأمن" على أية قضايا أخرى، وهي "استجابة" أميركية كاملة لإبقاء الاستقلال الوطني الفلسطيني رهينة في يد إسرائيل، مرة للمقايضات ومرات كثيرة لمنع وتعطيل هذا الاستقلال ومصادرة أية إمكانية لتحققه على الأرض.

ثالثا: حتى لو افترضنا جدلاً أن الطرف الفلسطيني قبل بهذه الخطة أو عُدِّل عليها بحيث أصبحت اكثر معقولية وقبولا، فما هي الآليات والروابط المؤسسية التي تحوّل هذه الخطة الى جزء من كل ملموس حول قضايا الحل النهائي جميعها؟؟

أليس القبول الفلسطيني بها (بغض النظر عن تفاصيلها) دون مثل هذه الروابط في الواقع العملي هو قبول بالحل المؤقت وبطريقة اكثر تشويها من الحل المؤقت الذي كان يجري الحديث عنه وتم رفضه بالكامل وبالمطلق من قبل القيادة الفلسطينية؟؟

ثم كيف لنا أن نفهم هذه "الخطة" وما هو موقعها في الحل عندما نسمع الرئيس الأميركي نفسه يتحدث عن حلول على مراحل انتقالية؟؟!

وكيف لنا أن نفهم هذه الخطة عندما يتحدث أوباما وكيري عن اتفاقية إطار جديدة!!؟

رابعاً وأخيراً فإن السيد كيري لم يقل لنا حتى الآن كيف ستتمكن عدة طائرات بدون طيار أن تحمي أمن (إسرائيل) إذا كان احتلال جنوب لبنان لسنوات طويلة لم يحمها على الإطلاق، واضطرت للهروب منه تحت جنح الظلام؟؟

ثم أين هي الجيوش العربية التي تهدد (إسرائيل) على الجهة الشرقية بعد أن تم تدمير الجيش العراقي، وانهاك الجيش السوري وتدمير سلاحه الكيماوي، وما الذي يفيد (إسرائيل) وجودها في عدة قواعد عسكرية على حدود تمتد لأكثر من ستمائة وخمسين كيلو متراً!!؟

لو كان التهديد حقيقيا وقائما بالفعل لما استطاعت فرق إسرائيلية بكاملها حماية هذه الحدود و(إسرائيل) وأميركا تعرفان ذلك حق المعرفة.

قد لا تكون معادلة الصراع وتوازن القوى في مصلحة الطرف الفلسطيني، وقد لا يمتلك الشعب الفلسطيني وقيادته من أوراق الضغط الكافية للرفض المباشر لهذه الخطة، وقد لا يكون من الحكمة أصلاً أن "نحمل السلم بالعرض"، لكن الإدارة الأميركية ستخطئ أكبر أخطائها في معالجة الصراع الذي يمتد على مدى اكثر من قرن كامل من الزمن أن هي اعتقدت أن الشعب الفلسطيني يمكن أن يرضخ لهذه الضغوط أو يساوم على حقوقه وأهدافه الوطنية تحت طائلة الابتزاز.

ورطة السيد كيري بانحيازه إلى المفهوم الإسرائيلي للأمن، والذي هو في الواقع ذريعة لمصادرة حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال الوطني الكامل ستطيح بإنجازاته (في سورية)، ومع إيران وقد تكلفه غالياً بدءاً من جائزة نوبل للسلام وانتهاء بفوزه على مقعد الرئاسة في البيت الأبيض إذا هو أصر على هذا الانحياز.

وإذا كان كيري مهتماً حقاً بإنجاز حقيقي، عليه أن يراجع حساباته ويعيد تقييم الأمور قبل أن يتحول الحل لهذا الصراع إلى سابع المستحيلات السياسية، طالما أن هذا الحل كان على حساب حقوقنا الوطنية وليس من اجل تحقيقها.

ولهذا بالذات فإن زيارة كيري ستكون فائقة الأهمية هذه المرة وربما تكون حاسمة فإما الاختراق وإما الفشل النهائي.

انقشع الضباب وحان وقت الحقيقة المرئية.

ولم يعد هناك من مكان ولا من وقت للدخول في مساومات جديدة.