على كثرة ما ألهَمَتْ وقائع حياته، موسيقين ومؤلفي دراما وأغنيات، ومخرجين سينمائيين، وشعراء وفنانين تشكيليين؛ فإن فيلم "وداعا بافانا" قدّم نيلسون مانديلا في حياة السجن، بمفارقاتها وأوقاتها، وبمغالبات روح وفكرة الحق والحرية؛ لجبروت السجان والأصفاد والباطل البذيء. فلا يضاهي الفيلم الذي اعتمد الحكاية التي رواها السجان نفسه، سوى مجموعة أغنيات فرقة الروك البريطانية "سبيشالز" التي اختصت أبا الأمة الإفريقية ونضال شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري؛ بأعذب ألحان موسيقى "سكا" الجامايكية: "أطلقوا سراح مانديلا" و"دُعيت لأن أقول إنني أحبك.. وحسب"!
كان السجان الأبيض جيمس غريغوري، قد تسلم المسؤولية عن الزنزانة وحبيسها، رقابة وتدبيراً لشؤون حياة استثنائية في مرارتها. اختاروه لأنه متطرف عنصري، يتكلم لغة الـ "خوسا" المحلية. يقول إنه تعلمها من الاحتكاك بأطفال العبيد في مزرعة أبيه. غير أن مناقب السجين، ورباطة جأشه، وأخلاقه، وتسامحه، ومحبته الإنسانية؛ غيّرت طباع السجان وقناعاته، حتى بات عاجزاً عن إبلاغ ويني مانديلا، السوداء التي يُفتَرض إنه يمقتها، أن الزيارة انتهت وأن عليها المغادرة. فقد بات يقول لها: سيدتي، ربما يكون قد تبقى لك خمس دقائق، لكي تتفضلي بالعودة الى المنزل!
تقهقرت لغة السجان وفكرته وقناعاته، أمام إصرار السجين على طلب العدالة لشعبه. كان ذلك في سجن "روبن آيلاند" الذي زاره الرئيس أوباما متأسياً على ضحايا ماض عنصري، متجاوزاً حقائق التاريخ البعيد والقريب، ومنها أن الولايات المتحدة نفسها قد تأخر تعقلها حيال مانديلا الى العام 2008 عندما "أهدت" للرجل في عيد ميلاده التسعين، مرسوماً وقّعه بوش الابن، يقضي برفع اسم نيلسون مانديلا، من قائمة من يسمونهم بـ "الإرهابيين". واليوم تنكّس الولايات المتحدة أعلامها، إظهاراً للحزن على "الإرهابي" الراحل!
ليست "بافانا" التي يُكثّف فيها السجان التائب، وصفه للسجين، ويبوح بمشاعره عندما ودع مكافحاً من أجل الحرية؛ إلا اللفظ الذي يطلقه المتكلمون بـالـ "خوسا" على جمع من الأولاد الصغار. هم أولئك الذين تعالى عليهم وتأفف منهم السجان في طفولته، كلما رآهم في مزرعة أبيه القائمة على أرضهم. فجيمس غريغوري، هنا، كمن يعتذر بحُرقة. فقد نشأت الصداقة بينه وبين رجل يختزل الأولاد السود، في جوهر مشاعرهم وأمنياتهم. هو الآن كمن يألم على الفراق، مثلما يودع المحب حبيباً. فقد تقهقرت عفونته وتطهرت روحه، أمام أخلاق الثائر وإنسانيته؛ فأسدى صفاؤه خدمة للبيض، ترسيخاً للتسامح في روح الزعيم الأسود!
كان مانديلا رجلاً ذا وطنية إفريقية تجذرت في ثقافته وسلوكه. قناعته بالديموقراطية لا حدود لها، واتسمت بحماسة مدهشة. لطالما دعا الى الامتثال لقرار الأغلبية حتى في حال مخالفتها لقناعاته، لأنها أولاً وأخيراً نابعة من الحق الطبيعي للإنسان في الاختيار. وعلى الرغم من كونه اشتراكياً؛ فقد انفتح على الرأسمالية وعلى ملاك الإقطاعات وعلى ذوي الرساميل الكبيرة. تأثر بالماركسية في سنوات نضاله الأولى، ودافع عن الاشتراكية العلمية، لكنه نفى كونه شيوعياً أما المحاكم العنصرية والناس. بعض مؤرخي سيرته يقولون إنه لم يقل الحقيقة، لأنه دعا في "ميثاق الحرية" الذي أسهم في كتابته في العام 1955 الى تأميم البنوك ومناجم الذهب وإقطاعات الأراضي من الملكيات الشاسعة، لضمان توزيع عادل للثروة. لكنه عندما تسلم الرئاسة، لم يؤمم شيئاً خشية ترهيب المستثمرين وإبعادهم. فقد تأثر في ذلك بسقوط المنظومة الاشتراكية!
تأسست للرجل مكانة أخلاقية رفيعة في العالم، لانحيازه الظاهر لقضايا الحرية. كان له سحر الشخصية القانعة الهادئة الواثقة من نفسها، كلما تحدث للآخرين، حتى من خصومه. وفيما هو يصادق المليونيرات وكبار المتمولين؛ لم يتجاهل موظفيهم الصغار ومساعديهم فكان يختصهم بوداد شخصي. عُرف عنه حرصه على أن يتقصى المزايا الأفضل عند كل إنسان حتى من الخصوم السياسيين لحلفائه. عنيد في وفائه، ما اقتضى في بعض المناسبات أن ينفجر في عاصفة عضب حارة. لكنه يقابل الإشاعة بالدعابة، وأظهر ولعاً بالتنكيت اللاذع، كلما تقصدته أقاويل باطلة!
في هندامه، هو الوجيه الإفريقي حتى النخاع. ظل ماكثاً في نمط ملوك قبائل الأدغال من الملبس، متأثراً بطفولته في جوار منزل ملك قبائل الـ "ثيمبو" الجنوب إفريقية. ظل حريصاً على القمصان المزركشة بألون أشجار الغابات على الضفاف، مع تركيز لافت على الصورة واللقطة، مؤمناً أن لباس الإفريقي هو أيقونة ثقافته، وبرهان حُسن مخياله في الفن وفي الذوق الاجتماعي!
مثلما ودع السجان طيف "بافانا" في شخصه؛ نودع اليوم واحداً اختزل في حكاية عمره، ملحمة الصبر والألم والأمل. إنها حكاية يحتذيها كل الذين يألمون ويأملون، ويتعين عليهم الصبر حتى يتقهقر السجان الاستيطاني الظالم، أمام منطق الحق والعدالة وصلابة المناضلين!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها