خاص مجلة "القدس"العدد 343 تشرين الثاني 2017
بقلم: فاطمة الحلو- مخرجة بريطانية من أصل فلسطيني
مُنذُ بدايةِ التّحضيرات والجدلِ لِمئويةِ وعد بَلفور التي شَهِدتها الساحة البريطانية مُؤخراً, وأنا أُراقبُ وأَنشطُ في هذا المجال. لستُ لأنّني أُؤيدُ أو أُعارضُ هذا الوعد المشؤوم كبريطانية, بل لإعتباراتٍ شخصية بحتة تَخُصُّني وتَخُصُّ عائلتي أَولاً ولبلدي ثانياً, الذي سُلب مُنذ أوّلِ لَحظةٍ وُقّعَ فيها هذا الوعدُ المَشؤوم في الثاني من تشرين الثاني عام 1917.
وعدُ بلفور هُو عبارة عن ثمانية وسِتّين كلمة غيّرت مَجرى حياتي وتاريخَ عائلتي، وشعبٍاً باكمله رمتهِ للمجهول, هذا الوعد هُو نَفسُهُ الذي جَعلني أجدُ نَفسي أُولد من عائلة حُرِمَت حَقَّها في العيش في وطنها، وسُلِبَت منها أَرضُها لِتُصبحَ مُشّردة تَعيشُ قِصّةَ اللجوء بَدأت بِنَكبَةِ عام 1948, ولتبدأَ حياةً مُرة في مخيماتِ الشتاتِ في لبنان, حيثُ وُلدْتُ وتَرعرَعتُ انا وأِخوتي الذين فَقدُتُهم خِلال الحربِ والمجازرِ التي أرتَكبَتها وترتِكبُها الصهيونية بحقِّ شعبٍ لا ناقةَ له ولا جَمل, بل حُمِّلَ مَسؤوليّةَ ذَنبٍ لم يرتكبهُ. هذا الوعد الّذي وَقَعَ على رَأسِ عائلتي حِينَ هَربَت من بَلدةِ الياجور, قَضاءَ حيفا, في الخامسِ وَالعشرين من شهرِمايو 1948. والتي على أَثرِهَا فَقَدت والدتي أَوّل مولودةٍ لَها بَعد هُروبِها من بطشِ أيدي عِصَابات الهَجاناه والشتيرن الصهيونية . وَجدَت والدتي الحامل, نَفسَها تُواجهُ الموت على أيدي العصابَات الصهيونية, حين أرادوا قتلَها وقريبتها, فلجأتا من حيفا الى بلدةِ ترشيحا الحدودية للبنان. فما كان من مُنقٍذ الاّ نفس الجلاّد الذي سلّم أرضَها الى من لا يَستحق. وبينما والدتي تَصرُخُ جَاءَ أحَدُ الجُنود البريطانيين ليَحميَهن, ثُم نقلَهُنَّ في سيّارَتِهِ العسكرية الى بلدةِ حُرفيش على الحدود اللبنانية , حيثُ التقت مُجددّا بِعائلِتها التي قد نُقِلَت مُسبقًا في سيّاراتِ الجيش البريطاني الى نَفس البلدة، ليتسلّقوا جَبَلاً أَوصَلَهُم لبلدةَ عيثَرون اللبنانية وهي في مَخاضِهَا. فَطلبت العائلة من حَرَسِ الحدود اللبنانية إعطاءهم خَيمةً لِتَستُرَ والدتي وهي تَضعُ طِفلتها, والتي أصبحت شهيدة اللُّجوءِ بعد ثمانيةِ أَشهُرٍ, ولتبدأ العائلة هِجرةً طَالتْ ولم تَنتَه حتّى يَومِنا هذا.
من الُمُضحك المُبكي بعد كل هذه السنوات, وفُقدان مُعظم أَفرادِ عائلتي في مُخيمِ شاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان, وَجَدْتُ نفسي لاجئةً مَرةً أُخرى في البلد الذي شرَّدني، وعَلى بُعدِ خَمسٍ وأَربَعينَ دقيقةً من منزِلِ بلفور في سكوتلندا, الذي وعد اليهود بتحقيق وطن قومي لليهود في فلسطين التاريخية, وحرمني حقاً أَقَرّهُ ولم يَمْتَلِكَهُ! في الفَقَرةِ الثانية من الوعد, أَكّدَ بلفور على عَدَمِ المساسِ بحقِّ غير اليهود المقيمين في فلسطين , وعلى أن لا تَتَأثّر حياتِهُمْ الأجتماعية والدّينِيّة والسّياسِيّة. فَلَمْ يُحْتَرَمْ هذا الحَقْ مُنْذُ اللّحْظَةِ الأولَى. وَخِلالَ دِرَاسَتي لِلأِعلامْ في جَامِعَة ستريلِنْغ الأسكُتْلنْديّة قَرّرْتُ أَنْ أَقومَ بِصِنَاعَةِ فِيلمٍ عن وعد بلفور وتَأْثيرَهُ على حياتي. فَحَصَلتُ على فُرصة الدُّخول الى منزل بلفور لأُصوّر فيلماً قصيراً, إختزَلَ حياة شعبٍ عانى التطهير العرقي لمئة عام ولازال. ولأتعرف على بلفور الذي قرر أن يأخذ حقي ليُعطيه لشخصِ آخر دون موافقتي, وهو الذي رفضَ أن يترُكَ أرضَه, وطلب أن يُدفن فيها! ورُغم أهميةِ الفيلم ولكنّهُ لم يأخُذ حَقّهُ بالَنشرِ والتَوزيع.
لم يُطرح أيُّ حلٍّ بشكل جَدّي أو عَملي, خِلالَ الفعاليات التي حَدثتْ مُؤخرا في بريطانيا, لما أُعانيه من لجوء, بل كان إمّا تنظيراً وإمّا إنكاراً لحقّي. فقرارُ تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية, إستضافةَ بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني على العَشاء, والتشدّقْ بأنها "فخورةٌ بإقامة دولة إسرائيل!!! وللاحتفال بالمُصيبة التي حَلّتْ على رأسي ورأس عائلتي, وفُقدان أخوتي ووالديّ في مخيم اللجوء بسبب بلفور, حيثُ لم يكُن لديهم الا خَياران, العودة الى ديارهم" حيفا" ,أو الموت في مخيم للاجئين.........
قَرّرتُ أن أُرسلَ الى النائب التي إنتخبتُها لتُمثّلُني في البرلمان البريطاني روث كادبوري عن حزب العُمّال رسالةً, أشرحُ فيها موقفي, وأُطالبها ألاّ تذهب الى العشاءِ الذي تُقيمه السيدة ماي على حساب مأساة عائلتي.. فكان ردها أنها مع حُقوق اليهود ودولة إسرائيل, كما أنها تؤيّدُ إقامة دولةٍ فلسطينية في الضفة وغزة على حدود عام 1967. فشرحتُ لها أننا لسنا ضد وجود اليهود. وكما نصّ وعد بلفور على "أقامة مكانٍ آمنٍ" وليس دولةً لليهود في فلسطين, أيضاً نصّت الفقرة الثانية من الوعد بِحقّي بالعيش في أرض والديَّ في "حيفا", مسقطَ رأسِ عائلتي سواءً كانت تسمى فلسطين التاريخية أو أسرائيل.
والحقيقة أنّ بعدَ كل هذه الفعاليات المؤيدة والمعارضة في بريطانيا لوعد بلفور, بقيتُ أنا وعائلتي التي فَقدتُها طَيّ صمتِ جميع مَن حولي, ولازال المُخيّمُ ينتظرُني لأسَتلِمَ أمانَةً تَركتُها بهِ, حين وعدْتُ والديَ بأخذِ رُفاةِ عِظامهم وإعادتِها الى حيفا. فوعد بلفور سَلَبَ مِنّي حقّي منذُ مئة عام , واليوم يَسلُبُ مِنّي وجودي, حتّى أصبحتُ كاليتيمِ على مائدةِ اللّئيم. والحقيقة أنّني الآن أنتظرُ آخر طلقةِ رصاصٍ في رأسي لِتَكْتُبَ نِهايَتي برصاصةٍ طائشة, تُسَجّلُ ضِدّ مَجهول! وهذه حَالُ سِتّةِ ملايين فلسطينٍّ "لاجئ".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها