من وقت لآخر، أردّد في رأسي بعض الكلمات حتى أُجهِدَها ولا تعود صالحة لأي تعبير، فأحاول أن أبثّ فيها الحياة مرة أخرى، ولو ليوم واحد، فالعالم تغيّر وعليّ اللحاق به لأكون شبيهاً بما يتغيّر فيه، أقلّه، في النظرة، والفكرة، والموقف، وخلال تلك اللحظات أشعر كأنه لا فاصل بين ما أرغب في الحديث عنه، وبين ما لا أرغب فيه، فأشعر باللحظة الأشدّ يأساً، ولكنني تعلّمت تقليب المفردات ووضعها في وهج الحاضر حتى تتوضح كزرقة السماء؛ لأنه كلما تغرّبت اللغة عن الحاضر، ابتعدت الأفكار وأصبحت نسخة من زمنٍ أقلّ ما يقال فيه أنه جثة هامدة غير قابلة للحياة.

تغلبتُ على نفسي، ومنعتها من السقوط كقطعة باطون على الحبر والورق. إنّ الثرثرة في منتصف النهار تجعل الاحلام شبيهة بالوجبات السريعة، لذلك أنا أبحث عن طريق أخرى ليس فيها استسلام لشروط الريح، لأن الاحلام لا تغدو حقيقة الا اذا خرجت من الظلمة والجمود الى رحاب الخلق والابداع، ولو اقتضى ذلك عناءً. الاهداف التي لم تفارقنا منذ نقطة البداية وصولاً الى سؤال الوجود، مازالت ترنّ في الوجدان والروح منذ أن أُرْغِمنا على المغادرة كُرَهَاء هرباً من الموت، الى جحيم الحياة! فلم يؤدِ ذلك سوى الى تفاقم المذابح. يعود السؤال يطرح نفسه بحثاً عن اجابة لا يمكن للغة ان تستوعبها، وهو انه كيف سمحنا لهؤلاء ان يكونوا بديلاً عنّا، هؤلاء الذين لم يتركوا لنا سوى الظلام، والمفتاح الأسود، والزحف بعد ستة قرون ونيّف نحو فلسطين.

 أحاول أن أشقّ طريقاً ثالثاً لا أكون فيه مكتوف اليدين في السياسة، والافكار، والهبّات الشعبية، والاتفاقيات، طريق تضمن لي ان اكون حرّاً، وتضمن حقوقي. نعم صدِّقوني أنا لا أسطو على أفكار أحد، ولكني أقول هل يكون الردّ بنكبة على النكبة. ما أسوأ لغتي وحياتي وحظي عندما تعجز كلّها من ان تجعلني استمتع بعد خمسة وستين عاماً وأكثر بوجودي على ظهر البسيطة كما يفعل اي انسان حرّ، له عنوان وكيان ومكان يؤوب اليه في آخر النهار. مازلت الى الآن كصنم أواجه رصاصات القاتل، ولا أدري ان كان هناك تبرير لهذا الكون الذي يحاول صياغة كل شيء حسب رغبات القاتل؛ أنني فعلاً لا أدري إن كان يوجد انسان آخر يشاركني ضعفي الذي أحاول دائماً أن اتناساه وأن أظهر بمظهر القوي الذي يستطيع ان يحقق الكثير، ولكنني أقف عاجزاً أمام الخمسة وستين عاماً وما سيتبعها من سنوات.

 إن الافكار التي أبحث عنها لا توجد في رؤوس الاجانب، ولا في رأسي، ولا في رؤوس المقموعين الجاهزين للثرثرة. إن شعوري بهذه المسألة يزيدني وحشة، ويدفعني أن أغوص في التفاصيل، وأبعثر على الأرض شياطين السنين التي مضت بعد ان انقسم العالم حولي، وانقسم الشارع والمنزل والدنيا ورأسي والسلطة، ولم أعثر بعد على ما يفضي الى الفهم والدهشة، وليس الى ما يدفع الى الرثاء والعدمية. ان المساحة التي أبحث عنها تتمثل بالهدف المتمثل بالانتصار، وهذا من بدهيّات المنطق والتحولات الجارية؛ وإن كانت خائبة حتى الآن! ولم ترسُ على برّ لنعرف ما اذا كانت سوف تتحول الى محصلة حقيقية أم ستبقى مستحيلة التحقق ويبقى الالم والعنف والجنون.

 أحياناً أتمنى أن أتوقف عن التمني، وأصمد أمام منظومة المواقف التي يتخذها حكام العالم الملاعين الذين أرغب في وفاتهم في كل لحظة، لأنهم يجلسون في حياتي كالألغام. خطر لي أنه لو كان بمقدوري أن أجمع العالم وأحشره في مكان واحد وأقول له أريد حلاً، وليس أمتار من هنا وهناك، كل ما يعنيني هو أنني تأخرت من العودة، وكل ما أريده العودة الى وطني فلسطين وليس الى الاندلس.