لم يكن ياسر عرفات ليتنبأ بالمقبل، فلم يكن عرّافا أو منجما أو كاهنا ولم يكن يحتاج لأن يكون أيا من هؤلاء عندما شخّص صعوبة الدرب ومشاق النضال وحجم العقبات والعوائق التي تعترض وستعترض العمل الفدائي.
منذ الرصاصة الأولى بل وما قبلها، ربما لمزاياه القيادية وامتلاكه للرؤيا وحسن النظر كان يدرك عِظَم المسؤولية الملقاة على عاتق الرواد الأوائل، فعِظم التضحيات يجب أن تناظر عِظم القضية، وعظمة الرجال لا تظهر إلا بالمهام العظيمة، والمهام العظيمة هي دوما صعبة ويراها أصحاب الهمم النافقة مستحيلة، ومن هنا كان القرار صعبا أن تنطلق حركة التحرير الوطني الفلسطيني– فتح بعد النكبة عام 1948.
تلك النكبة التي خلفت صدمتها للوهلة الأولى حطاما بشريا ونفسيا واجتماعيا وثقافيا عكس نفسه بالذهول والتشتت وافتقاد السند والاحباط الشديد، وعكس نفسه بالبحث عن الذات في ظل الضياع الذي أصاب الأمة والشعب الفلسطيني فطفق يبحث عن حقيقة هويته فيغرف من الأفكار "الصلبة" التي افترضت بذاتها الكمال أو القداسة، وافترضت بذاتها المطلق والشمولية، وافترضت بذاتها الانتصار بالشعارات والامتداد.
الفلسطينيون- بعد تجاوز الصدمة نفسيا- هم الذين رفضوا الإبحار طويلا في مركب البؤس واليأس والإحباط فتوزعوا بين تيارات الأمة الكبرى آنذاك وهي التيارات أو الأحزاب التي تولدت إثر صراع عميق داخل الأمة. يقول صلاح خلف (أبو إياد) الشهير بخطاباته الحماسية التحفيزية المفعمة بالأمل عن "الحفنة الطيبة من الشباب التي انطلقت" إنهم "جمعوا يأس الأمة العربية وحولوه إلى آمال"
(في عام 1965 عندما انطلقت حركة فتح لم يكن عددنا كبيرا، كان العدد بسيطا جدا، وإنما كانت الفكرة في نظرنا كبيرة جدا، لأننا كنا نعتقد أن الرصاصات التي سنطلقها في الأراضي المحتلة، لا يمكن أن تعيد لنا فلسطين، إنما هذه الرصاصة لها مردود على نفسية الإنسان الفلسطيني، لا بد أن يشعر الإنسان أنه موجود أولا) ويضيف صلاح خلف (أبو إياد) في موضع آخر (أقول نحن كشعب فلسطيني كان لا بد أن نعود إلى الخارطة السياسية، قيمة كل نضال شعبنا في عام 1965 أنه أعاد هذا الشعب الفلسطيني إلى الخارطة السياسية) (1)
نهوض أمة وتشظي أخرى
تشظّت الأمة العربية والأمة الاسلامية على مدار زمني طويل ارتبط بالنهوض الأوروبي الذي ترافق مع تغلغل عقلية الهيمنة والاستيطان والاستبداد الاوروبي الذي وجد شكله الحقيقي من خلال احتلال أراضي الآخر تحت ادعاءات النقاء والطُهر والتقدم للرجل الأبيض، وتحت مدامك الفكر العنصري الذي أباح النظر للأقوام الأخرى من زاوية المطاع الذي يحمل الحضارة للوحوش وهو الذي ينبغي من الاتباع الطاعة له وتقديم القرابين والشكر لإلهِهِ.
كان المطلوب في ظلام (الاستيطان) الغربي أن تقدم الشعوب ثقافتها وروحها ودينها وقوميتها وإنسانيتها وخيراتها وأرضها فداء للرجل الأبيض الذي افترض امتلاكه لكل الحقائق وافترض امتلاكه للحقيقة الدينية، وافتراض أن هيمنته تشكل قدرا على الآخر أن ينصاع له، فسوغت العقلية الاستيطانية لنفسها النظرة الاستعلائية والاحتقارية لشعوب الأرض فاستعبدتها في فترات الصرع الاسباني البرتغالي على المستوطنات، وما تلاها من فترة الصرع الاستيطاني الثقافي– الاقتصادي الانجليزي الفرنسي، هذا الصراع الذي حط رحاله في منطقتنا العربية بقوة منذ القرن التاسع عشر ثم تألق إثر الحربين الاوروبيتين الكبريين (المسميتين الحرب العالمية الاولى والثانية)، وما كان للنزاع السلطوي ونزاع النفوذ والمصالح الاقتصادية إلا متوافقا في هذه العقلية مع نزعات التفوق التي وجدت ضالتها بعد تحطم الامبراطورية العثمانية.
فلسطين في ثلاثة وجوه استيطانية
نالت المنطقة العربية العنت والاضطهاد والاستيطان اللا أخلاقي سواء في مناطق الاحتلال والهيمنة في الخليج العربي من البرتغاليين (تمكن البرتغاليون من الوصول إلى الهند بعد اكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح وسرعان ما أسسوا لهم إمبراطورية في الشرق. في عام 1507م تمكن اسطول برتغالي يقوده ألفونسو دي ألبوكيرك من احتلال مسقط وصحار وخور فكان ثم هرمز التي وقع ملكها اتفاقية الولاء للتاج البرتغالي، في عام 1521 سقطت البحرين بيد البرتغاليين)، ومن الانجليز لاحقا، أو في الجزائر منذ احتلال واستيطان الجزائر العام (1830م)، ثم بلغت ذروتها بعد الحرب (الاوروبية– العالمية الاولى 1914-1918م) والاتفاق على تقسيم العالم العربي في (سايكس بيكو عام 1916) ثم في (سان ريمو) عام 1920، وما كان ذلك بغريب على العقلية التي لا ترى في الآخر إلا خادما وعبدا. ومن هنا وقعت فلسطين في صلب المخطط الاستيطاني الاوربي على ثلاثة أوجه:
كان الوجه الأول منه: ضمان الهيمنة والاغتصاب والسيطرة الأبدية على مقدرات الأمة والمنطقة الاقتصادية والجغرافية والثقافية والروحية بفصل جزئيها الشرقي والغربي الى الأبد، وبتفتيتها الى كيانات متحاربة.
والوجه الثاني من المخطط الاستيطاني هو تغلغل عقدة العقل الاستيطاني المتفوق الغربي الذي يرى الآخر مأمورا أو منبوذا أو مسخّرا نتيجة ارتباط هذه العقلية ببُعدها الاقتصادي التوسعي (تحولت "شركة الهند الشرقية المحترمة" البريطانية من مشروع تجاري تأسس عام 1600م إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات الهندية وجميع مستوطنات التاج البريطاني في المنطقة وذلك بدعم سياسي وعسكري من بريطانيا) وببُعدها العنصري الذي يستغل الاختلاف العقيدي في الاقصاء عوضا عن التقبل، وهو ما ناله يهود أوروبا الذين تقرر أن يُستبعدوا من القارة وفي ذات الوقت يشرخوا منطقتنا فيتحقق للغرب الاستيطاني و(للحركة الصهيونية لاحقا) أن يضربوا عدة عصافير بحجر واحد.
أما الوجه الثالث فكان تحقيق الدول الغربية لتواصل احتكار العلم والزراعة المتطورة والصناعة والتقدم والتقانة (التكنولوجيا)، فوقعت فلسطين في (بؤرة) الحدث الاستيطاني وللأسباب الكثيرة التي ميزت جغرافيتها وموقعها وأساطير التناخ (التوراة وملحقاتها) التي أعيد تحريفها لتُفهم وكأنها تتحدث عن بلادنا.
يقول ياسر عرفات (ومن هنا يبدأ جذر المشكلة الفلسطينية، أن هذا يعني أن أساس المشكلة ليس خلافاً دينياً أو قومياً بين دينين أو قوميتين وليس نزاعاً على حدود بين دول متجاورة، انها قضية شعب اغتصب وطنه وشرد من أرضه لتعيش أغلبيته في المنافي والخيام.) (2)
بريطانيا والاحتلال الصهيوني
نالت المنطقة العربية من الضغط والقسوة والاستيطان ما جعل من الكيانات الناشئة بقوة وإرادة أبطال التحرر والاستقلال العرب يسعون لبناء هذه البلدان والسعي لتقدمها، ولكن من موقف ضعيف مرتبط بشكل أو بآخر بالدولة التي احتلتها أكانت بريطانيا أو فرنسا (أو إيطاليا أو إسبانيا أو البرتغال) إلا أن فلسطين كانت قضية مركبة فعل فيها العقل الغربي الاستيطاني أبشع جريمة في القرن العشرين (والواحد وعشرين) وهي جريمة وضع بمقتضاها عدد من أتباع ديانة محددة من قوميات متعددة وهم اتباع الديانة اليهودية الأوروبيين خاصة مكان سكان فلسطين العرب في آلية تهجير وطرد واحلال برزت بذورها منذ العام 1881 م ثم في مؤتمر (بانر- كامبل) 1905– 1907 في لندن وصولا لتحالف العقل الغربي مع الحركة الصهيونية (منذ مؤتمر بازل 1897م) فتولى الانجليز منذ احتلالهم لفلسطين وعبر ما يسمى (صك الانتداب) عام 1922 القيام بهذه المهمة اللاأخلاقية.
وقعت فلسطين في قبضة عقلية الهيمنة والاستيطان الثقافي والاقتصادي، والإحلال فسهلت الهجرة اليهودية ويسّرت سرقة الأرض، ثم عمدت لانشاء الكيان فوقعت نكبة العام 1948 التي دفعت بالشباب الفلسطيني لأن يأخذ بزمام المبادرة ضمن فهم عميق لجذور المشكلة، وفي تطور وعي استغرق زمنا طويلا ليحدد من خلاله حجم القوى والتدافع الدولي، ثم ليرى حجم قوته وامتداداتها فيرى بوضوح أين يقف من كل ذلك، ففلسطين قد سقطت بين أيدي احتلالين اجنبيين انجليزي وصهيوني، ثم ترك الأمر كله للقاعدة المتقدمة للغرب الذي ورث سطوته وهيمنته الولايات المتحدة الأميركية.
هوامش
(1) كتاب من إصدار مكتب الشؤون الفكرية والدراسات في حركة فتح تحت عنوان الفكر الوطني الثوري في الممارسة: من خطب الشهيد أبوإياد، الطبعة2 عام 2008 والاقتباسين من ص 67 ومن ص 137، والجملة الأولى اليأس والآمال ص145.
(2) من خطاب أبوعمار في الامم المتحدة عام 1974.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها