يبدو أن لدينا بعض الحظ فيما يتعلق بتسمية مآسينا. فالمأساة الكبرى التي دمرت الوجود الفعلي للمجتمع الفلسطيني في عام 1948 ومررنا على ذكراها الخامسة والستين قبل ثلاثة أسابيع، لم نجد لها إلا ذلك الاسم المخفف: نكبة، بحيث يغيب اسم المتسبب فيها، وبحيث تبدو لمن لم يتشرد ولم يتجرع الذل بسببها، كما لو أنها فعل طارئ من أفعال الطبيعة.
والأمر نفسه ينسحب على المأساة الثانية المتفرعة من الأولى، أقصد تلك التي وقعت في الخامس من حزيران عام 1967 والتي نعيش اليوم ذكراها السادسة والأربعين، فهي مجرد نكسة، والنكسة من حيث اللغة أخف وطأة من النكبة، وما علينا، والحالة هذه، إلا أن نركن إلى وهم التسميات، ما دفع بعض الساخرين منا إلى اقتراح تسمية جاهزة لأية كارثة جديدة تحل بنا باعتبارها مجرد وكسة.
غير أن هذه التسميات لا يمكنها أن تحجب عن الأنظار ما تعرض له الشعب الفلسطيني خلال المأساتين الأولى والثانية من تشريد ودمار، وهو فادح ومذل بكل المقاييس، وما زالت نتائجه حاضرة أمام أعيننا حتى الآن، وما زالت هذه النتائج ممعنة في التغول على حساب أرضنا ووجودنا، وحق شعبنا في الحرية والعودة وتقرير المصير والاستقلال.
ولست أرى ضرورة لتوجيه المواعظ عن حتمية التصدي للهزيمة ولنتائجها الضاربة في شتى مناحي حياتنا، فذلك هو واجبنا الذي لا يمكننا التخلي عنه إذا كان لا بد لنا من الانتصار لإنسانيتنا ولكرامتنا التي يهدرها الاحتلال.
يكفي أن أشير في هذا المقام إلى التعامل اليومي المذل الذي يسم سلوك المحتلين الإسرائيليين تجاه أبناء شعبنا، فهم ينظرون إلى الفلسطيني نظرة دونية، وليس له إزاء ذلك أن يتمتع بالاحترام. ثمة غطرسة وتعالٍ وعنصرية واستهتار بكرامة الفلسطينيين على الحواجز العسكرية وفي الشوارع والأماكن العامة وعند المعابر الحدودية وفي المعتقلات والسجون. ويتمثل ذلك في الاعتداءات الجسدية التي يمارسها المستوطنون ضد الفلسطينيين، وكذلك في اضطهاد جنود الاحتلال للفلسطينيين وفي إجبارهم على خلع ملابسهم ووضع أيديهم فوق رؤوسهم والجلوس في أوضاع مهينة، ناهيك عن إطلاق الرصاص عليهم وقتلهم بدم بارد لأوهى الأسباب. وثمة تفاصيل كثيرة أخرى عن الإساءات والضرب والتنكيل والاحتجاز لساعات طويلة في الساحات وعلى أرصفة الشوارع، والهدف بطبيعة الحال كامن في الرغبة اللئيمة في إذلال الفلسطينيين والتطاول على كرامتهم.
من حقنا نحن الفلسطينيين، بل ومن واجبنا ألا نقبل الذل وألا نسكت على الإهانة، ولن يكف المحتلون عن إذلالنا ما داموا قادرين على ذلك. وهنا التناقض الذي لا يمكن حسمه إلا بتعزيز وجودنا على أرضنا وبالدفاع عن كرامتنا وحقوقنا بكل الوسائل المشروعة ضد الاحتلال.
وكي لا نكتفي بتعليق كل أوزار حياتنا على مشجب الاحتلال، فإن نظرة على أوضاعنا الداخلية، وعلى تصرف بعض مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية تجاه المواطنين، لا توحي بأي اطمئنان، وهي تعطينا انطباعًا كافيًا عن مدى استعدادنا الفعلي للتخلص من الاحتلال، عبر تقدير إنسانية الإنسان في مجتمعنا وتعزيز إحساسه بكرامته.
فقبل يومين كنت أشاهد برنامجًا على شاشة فضائية فلسطين يظهر فيه مشهد مؤلم لحشد من النساء والرجال الواقفين في طابور طويل لساعات عدة، أمام مركز طبي تابع لوزارة الصحة الفلسطينية في مدينة نابلس، بحيث يبدو التذمر والاستياء من الإهمال باديًا على الوجوه، وبحيث لا يمكن لهذا الانتظار المضني أن يفسر إلا على أنه استهانة بالناس وبوقتهم وبصحة أجسامهم.
لذلك، أعتقد أن احترامنا لكرامة الإنسان في مجتمعنا تجعله أقدر على التصدي لنتائج الهزيمة الباهظة التي ما زالت بلادنا تئن تحت وطأتها حتى الآن.
من النكبة إلى النكسة / بقلم محمود شقير
05-06-2013
مشاهدة: 1213
محمود شقير
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها