جميع الذين فكروا بالرصاص عادوا الى المطابخ واخذوا السكاكين.
لا فكرة لدى الشبان المنتفضين عن العودة الى البيت، وترك النهار في الهواء الطلق، هناك من أرغمهم على الفعل وردة الفعل. هذا العذاب الطويل، وحرق الاحلام في أجساد الفتية في ذروة الليل، وهذه البلاد وما أبعدها في حنايا صدورهم حين لا يفكرون بسواها.
من هذا الواقع المركّب والمعقّد الفائض بالخطايا، كان خطاب الرئيس. ما يجري من "هبّة" شعبية أو "انتفاضة" ثالثة بالاراضي الفلسطينية بعد كلمة الرئيس أبو مازن في الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً، وهو ما عبر عنه نتنياهو متهماً الرئيس بالتحريض على العنف.  
صحيح أن ما قبل خطاب الرئيس ليس كما بعده، ولكن هذا لا يعني أن أبو مازن يتحمل المسؤولية عما يجري بالأراضي الفلسطينية، أو هو المحرض. إن من يتحمل مسؤولية ما يجري من عنف هو العدو الاسرائيلي وسياسة حكومته المتطرفة، والتي تركت الشعب الفلسطيني يرزح تحت سلطة الاحتلال بعد اتفاقية اوسلو وغيرها من الاتفاقيات، وكلها لم تقدم له شيئاً لإنهاء الاحتلال والوصول الى الحرية والاستقلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وسدّت أمامه أبواب الحلول الى أجل غير مسمى.
إن الاحباط الذي ساد كل هذه السنوات وفشل العملية السياسية وانسداد افق الحلول السياسية، وانهيار كل السقوف الزمنية لانهاء هذا الاحتلال وعجز الراعي الامريكي والرباعية الدولية أمام التسلط الاسرائيلي وعنجهيته واطالة عمر الاحتلال على أرض فلسطين، هو ما دفع الشعب الفلسطيني اليائس لأخذ زمام المبادرة لينطلق في الحراك الاخير مقدما الدماء والارواح من خيرة شبابه للتصدي لهذا العدو الصلف. وعادت فلسطين مجدداً على رأس الاهتمامات العربية والدولية والاعلامية، وبادر الشعب الفلسطيني الى توسيع نقاط الاشتباك من الضفة الى غزة الى اراضي الـ 48 مستخدماً طعنات السكاكين والحجر والمقاليع والعزيمة والارادة كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس في مواجهة عدو مدجج بالسلاح السيّال للبرهان على ان هذا الشعب لا يمكن ان يرضخ لسياسة الأمر الواقع او يمكن ان يستسلم ما دامت حقوقه الوطنية والسياسية ليست منجزة بعد.
من حق الشعب الفلسطيني أن يغضب ويثور ويقاوم من أجل المستقبل والحياة من أجل أن يكون حراً على هذه الأرض، فجاءت هذه "الهبّة"  "الانتفاضة" رفضاً لتكريس ستاتيكو الأمر الواقع ولإرغام العدو على القبول بالمطالب الفلسطينية الوطنية المحقة والتي أجمعت عليها أكثر من  مئة وستة وثلاثين دولة الى الآن في أحقية ان ينال الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وحقه في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. فلسطين أرض مقدسة وأرض رباط ومن يريد الجهاد عليه أن يتوجه الى أرض الجهاد الحقيقية  وذلك ليتماشى مع منطق الجهاد الحقيقي، وعليه فالمطلوب من هذه "الهبّة" وقيادات العمل الوطني في الداخل استثمار الايجابيات من هذا الحراك وتوسيعه الى أبعد الحدود والبحث عن آليات جديدة لإدارة الصراع ووضع استراتيجية النفس الطويل، وهو ما يصيب العدو بمقتل في هذه المنازلة التي فاجأت الجميع. المطلوب الآن الحذر من عسكرة هذه "الهبّة" حتى تخدم الحراك الى أقصى الحدود لتبقى الشعلة ملتهبة حتى دحر الاحتلال والحصول على الحقوق الوطنية واقامة الدولة بعاصمتها القدس الشريف. إن ما يقدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات هو حقيقة مكرسة على أرض الواقع وليس سراباً كما يعتقد البعض.  
إن المواجهة الجارية كشفت نوايا وخبث الحكومة الاسرائيلية واصرارها على الإمعان في نسف الحلول السياسية والتنكّر لحل الدولتين والتطرف في اصدار القوانين الداعية الى قتل الفلسطينيين بدون وجه حق، وتحريض وحماية المستوطنين على ارتكاب المجازر كما وكشفت عن براعة الشعب الفلسطيني في ابتداع اساليب المواجهة ومدى صلابته وقدرته على التحمل من أجل حماية حقوقه الوطنية وصونها بعزيمته ووحدته العظيمة التي اربكت العدو، والتي نأمل أن لا تهدأ حتى نيل الحرية والاستقلال، وتحقيق الحلم الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.