بدأت مسامير القلق تدق رأس الفلسطينيين. كان المصير مجهولاً وأصبح أكثر تعثّراً في زمن الهجرة الى بلاد الضباب. هاجر كثير، وآخرون يتمنون وينتظرون السفر. كأن عدوى الهجرة السورية والعراقية وما سيليها من هجرات، جعلت الفلسطينيين ينظرون الى البعيد البعيد، يهربون بلا جدوى من واقع الى واقع، فكرة الهجرة  في مخيلتهم، هذا الجيل مَنْ يستطيع في ظلّ هذه الظروف المعقّدة أن يُؤَمّن له أرضية مختلفة تضيء وجهه العابس. جيل لا يرى في المرآة أمامه سوى البحر باسطاً ذراعيه لموجات المراكب المحفوفة بالمخاطر،  يريد أن يغسل يديه من ملوحة هذه الامة.! هذا الجيل لا يريد أن يغرق في القصص والروايات والفذلكات، ولا يريد الاستغراق في سنوات المآسي الطويلة.
 هناك تحولات وتحديات عميقة، وحديث الهجرة في المخيمات آخذٌ في الاتساع بين فئة الشباب، حتى بات النزوح جماعيا  وأسرياً وهذا أمرٌ ليس خافياً على أحد. يجب تسليط الضوء على هذا الموضوع، وتدارك ما يجري لاسباب سياسية ووطنية، وإلاّ سيذوب الفلسطينيون في المجتمعات الاخرى وتصبح المخيمات خالية من أهلها، وأخشى ما أخشاه أن نصبح هنوداً حمراً في بلاد الاغتراب، ويصبح حق العودة ميتاً، ناهيك بالايادي الخفية التي دخلت على هذا الخط، وجعلت منه فرصة سانحة لتمييع القضايا الوطنية.  ولا يخفى ان تكون هذه الايدي صهيونية بدأت تخريب القضية من باب الترغيب في الهجرة وتفكيك المجتمع الفلسطيني بالقوة الناعمة.
 يمشي المهاجر منساقاً وراء أحلامه، يستنشق كميات كبيرة من الهواء، يرى السؤال المؤجل على أي ارض تحط قدماه، يتذكر من مات غرقاً  واختناقاً، تصفع وجهه كلمة الموت، يتوقف قليلاً يخاف على الوطن، يخشى ان يسقط مفتاح بيته الذي ورثه، يخشى ان يقول الصهاينة انهم استراحوا من حق العودة، يريد ان يحيا لكي يحيا الوطن، يقول المهاجر الفلسطيني لا أريد ان انسى وطني، يعيش المهاجر في "شاحنة موت دائمة" وتغزو  وجدانه صفحات بعناوين لا تتسع لجسده، لقد توسل البحر كثيراً وكتم احلامه كثيراً، ومسح دموعه بأكمام قميصه ولم يكلف احداً نفسه عبء المواساة.
 هل هذا هو الفراغ الذي نعيشه، هل هو المكان الذي لم نألفه بعد ونهفو الى شيء لا نعرفه، يمكن ان لا نجد فيه التهميش الذي يجلس حتى مع محتويات الغرفة. شيء ما يحدث داخل النفوس، وفي الأصوات التي تتحدث عن الهجرة، اصبح البحر فرصة للتجار والمهاجرين والطامحين، لم يعد شيئاً مهماً ان تترك مكانك، وكل ما فيه من أحلام وذكريات وتمضي قدماً، تاركاً كل ما بنيت يذهب أدراج الرياح. الخوف من الفواجع التي حصلت، والخوف مما سيأتي من فواجع أكبر، حتى باتت الهجرة حلماً، والبقاء في المخيمات التي يعيش فيها الفلسطينيون كابوساً. قلق من الخضات الامنية، بطالة متفشية، حرمان من الحقوق المدنية، فقرٌ وعدم ثقة بشرعية من هم على الارض، وفوق هذا لا يستطيع ابن المخيم ان يكون حر الارادة، او ان يشعر ان له قيمة كسائر البشر، او انه ليس ممنوعاً عليه الف كذا.. وكذا. والآن تطل الهجرة برأسها، هناك من خرج، وهناك من يستعد للخروج في البحر والجو والسير على الاقدام في الغابات. من حق الشعب الفلسطيني ان يتنفس من حقه ان يستقرّ ويطمئنّ، من حقه ان يمارس حياته بشكل طبيعي، لا تستطيع ان تقول للمهاجر شيئاً اذا لم تكن مقنعاً؟ يبدو ان الطريق طويل والمسألة لم تعد مزحة، ولا هي "موضة".
 الموضوع أخطر مما يظنّ البعض، لأن الهجرة هذه المرة تأخذ أبعاداً أخرى، ولأن من يهاجر لا يريد العودة نهائياً بعد أن أصبح لديه قناعة تامة بعدم الاقتناع بواقعه المرير. لذلك نرى انه على الجهات المسؤولة عن رعاية الشعب الفلسطيني الانتباه الى خطورة هذا الموضوع، لأنه يبعد جيلاً كاملاً عن حقوقه السياسية والوطنية والانسانية، وفي هذا السياق جاء الضغط من باب التضييق على التقديمات الاجتماعية والتعليمية والتهديد بوقف العام الدراسي ليصبح واقعاً عملياً فيما بعد وليكون من العوامل في دفع الفلسطينيين الى الهجرة وقد باتوا يؤمنون بأن هذه الامور ستصبح واقعاً آجلاً ام عاجلاً ما يزيد من أعباء الحياة عليهم، ومن هنا كان باب الهجرة المنفذ الوحيد لهم للتخلص من واقع سيكون اشدّ بؤساً في أي لحظة، وفي المقابل لا يوجد سندٌ يوقف الانهيار الذي بدأ يأكل جدران حياتهم، لذلك كان لا بد من ان ندق ناقوس الخطر وعلى القيّمين  تدارك الموضوع قبل ان تفلت الامور ويصبح حق العودة في خبر كان.