حسن بكير- خاص مجلة القدس/ "وصيتي لكم أيها الإخوة، حملة البنادق، تبدأ بتجميد التناقضات الثانوية وتصعيد التناقض الرئيسي ضد العدو الصهيوني، وتوجيه البنادق، كل البنادق نحو العدو الصهيوني، فاستقلالية القرار الفلسطيني تحميه بنادق الثوار المستمرة. لكل الفصائل أقولها، لإخواني جميعاً أينما تواجدوا، الاستمرار بنفس الطريق الذي سلكناه".
ما أروعها من كلمات صدرت عن فتاة لم تتجاوز العشرين عاماً، قبل توجهها إلى تحقيق أسمى هدف في الوجود، ألا وهو النضال في سبيل تحرير الوطن السليب، وتدعو فيها كافة فصائل المقاومة إلى الوحدة الوطنية والاستمرار بمقاتلة العدو الصهيوني.
مقتطفات من وصية الشهيدة دلال المغربي، أول فدائية خاضت أشرس معركة مواجهة مع العدو الصهيوني، ورفعت علم بلادها فوق الأرض الفلسطينية، بعد أن اختطفت ومجموعتها الفدائية "دير ياسين"، حافلةً كانت متوجهةً من حيفا إلى تل أبيب وهي تقلُّ جنوداً صهاينة اقتادوهم رهائن، فقتلوا 67 صهيونياً وجرحوا 82 آخرين بحسب اعترافات العدو الصهيوني قبل أن تستشهد دلال مع معظم أفراد المجموعة. وبذلك روت ورفاقها بدمائهم الزكية الطاهرة أرض فلسطين العطشى لدماء أبنائها الذين اقتُلعوا منها منذ العام 1948 فاهتزت الأرض ورويت، فأثمرت ثوُّاراً وفدائيين يتوافدون إلى الأرض الطيبة المقدسة، يدفعهم الشوق والحنين لتحريرها من براثن العدو.
اليوم وبعد مضي 35 عاماً على استشهاد قائدة العملية، أسئلة وتساؤلات تطرح نفسها: من هي هذه الفتاة التي آثرت الشهادة على الحياة الدنيا وهي في مقتبل العمر، وتركت صخب الحياة وملذاتها بحلوها ومرها؟ كيف عاشت طفولتها؟ من أين جاءت بهذه الجرأة التي لا تتوافر لدى كثير من الرجال؟ من أشبع روحها فداء وانتماء وولاء للوطن؟
لإشباع رغباتنا بالاجابة عن كل هذه التساؤلات، جمعنا لقاء مع أخيها أحمد في منزله في منطقة الفاكهاني، وكان لقاء مميزاً لم يخلُ من ذكريات سعيدة، مؤلمة وحزينة.
بدايةً حدِّثنا قليلاً عن عائلتكم
والدي هو سعيد المغربي، من مدينة يافا. هاجر مع عائلته من فلسطين إلى لبنان إثر نكبة عام 1948، حيثُ كان والدي من المناضلين الذين قاتلوا جنباً إلى جنب مع المجاهد عز الدين القسام في معركة القسطل، ثمَّ اعتقل من قِبَل المستعمر الانكليزي. كما عمل في صفوف المجاهدين في فلسطين وكان شعاره العمل السري. تزوَّج من لبنانية من قرية" شوكين" في الجنوب اللبناني وأنجب خمسة صبيان وأربع بنات هم: رشيدة، ودلال، ومحمد، وجميلة، وأحمد، ومحمود، وجدال، ومصطفى وشادي. والحمد لله والدي أنشأنا على حب الوطن وأغنانا وطنية وانتماءً لفلسطينيتنا وقوميتنا العربية. كما أنه كان يعقد جلسات استرجاع الذاكرة الفلسطينية مع شركائه في الذاكرة، فيستعرضون بطولاتهم وذكريات الطفولة والشباب ويافا والليمون والميناء والصيادين. ورغم أننا كنا نستمع إليه جميعاً، ولكنَّ أختي دلال كانت أكثرنا انجذاباً للحديث وأكثرنا تساؤلاً.
هلاّ أخبرتنا عن دلال وشخصيتها وطفولتها؟
ولدت دلال في 29/12/1959، وهي الابنة الثانية بعد أختها رشيدة. كانت دلال سمراء اللون، ذات شعر أسود وأجعد بعكس أخواتها. وكانت تتمتع بروح مرحة، وسعيدة في طفولتها، كما أنها كانت تهتم بمظهرها الخارجي.
كذلك كانت دلال تحب مساعدة والدتها في الأعمال المنزلية، إضافةً إلى تمتعها بذكاء وشخصية قلَّ نظيرهما عند أقرانها. من جهة أخرى فقد كانت دلال تحب لبس الفساتين، وكان اللون البرتقالي لونها المفضل لدرجة أنها اختارت فستاناً برتقالي اللون في حفل خطبتها، وأظن أن ذلك كان عائداً لتأثُّرها بالحديث عن البرتقال اليافاوي، إذ إنها كانت مستمعة ماهرة ومتحدثة لبقة، وتأثرت بحديث والدنا عن ذكريات فلسطين ويافا والهجرة.
ولكن دلال ما لبثت أن أحسَّت بالتمييز بين اللبناني والفلسطيني، وكان لهذا الاحساس انعكاس على شخصيتها، أدى إلى تبدلها. فأصبحت انطوائية تحب الوحدة، ولم تعد تهتم بمظهرها الخارجي وأصبح بنطلون الجينز ملبسها المفضل وأصبحت تقص شعرها قصة صبيانية وباتت تبدو أقرب إلى الصبي منها إلى الفتاة، وكانت تقول "أنا حسن صبي" ووقتها ذهلنا من هذا التغيير في شخصيتها وأفكارها وسلوكها.
إذاً كيف انخرطت في العمل الفدائي؟
كانت دلال من المجتهدات في المدرسة وكتبت عن تاريخ فلسطين وتغزلت بوطنها بقصائد من الشعر لأنها كانت تحب كتابة الشعر. لذا ففي عام 1973 طلبت من والدها الذي كان يعمل في الهلال الأحمر إلى جانب عمله في تعهدات البناء، أن يسمح لها بالتطوع في الهلال الأحمر مع استمرارها في متابعة دراستها.
وخلال دراستها الجامعية التحقت بالاتحاد العام لطلبة فلسطين. وهنا أريد أن الفت النظر إلى صفة تفرّدت بها دلال وهي أنها كانت تظهر من شخصيتها عكس ما تخفي. فهي كانت تتظاهر بالخوف لدى سماعها إطلاق النار وحتى لدى رؤيتها للحشرات الصغيرة، وفي الوقت نفسه كانت تتلقى تدريبات عسكرية في معسكرات حركة "فتح" سراً. كما أنها شاركت في الدفاع عن الثورة الفلسطينية وقاتلت مع الكتيبة الطلابية، وهذه السرية اكتسبتها من والدنا رحمه الله.
*ماذا عن حياتها العاطفية ألم تعطها حيزاً من حياتها؟
في العام 1975 تمَّت خطبة دلال لمناضل فلسطيني كان الحب الوحيد في حياتها، وقد أحبَّته لأنه كان مناضلاً ويتمتع بأخلاق حميدة، ولكنها آثرت حب فلسطين على حبها. ورغم أن خطيبها كان وطنياً إلا أنه عارض مشاركتها في القتال مع الكتيبة الطلابية ففسخت الخطوبة.
ماذا عن عملية "كمال عدوان" الفدائية، هل كنتم على علم بها؟
كانت دلال تتلقى تدريبات في معسكرات "فتح" سراً لأن "فتح" في مرحلة السبعينات كانت تعتمد السرية في العمل التنظيمي والعسكري. وبعد قصف الطيران الإسرائيلي للقاعدة البحرية التابعة لحركة "فتح" في منطقة الدامور، انتقلت دلال إلى معسكرات في الجنوب اللبناني لمتابعة تدريباتها، وأكملت تدريبات خاصة ومكثفة متعلِّقة بالعمليات الخاصة. غير أننا لم نكن نعلم بهذه الأمور إطلاقاً، وحتى والدنا الذي كان مقرباً إليها، لأنها كانت تؤمن أن نجاح أي عملية يعتمد على السرية التامة.
وبتاريخ 11 آذار 1978، سمعنا خبر عملية كمال عدوان على شاشات التلفزة. وصرخنا جميعاً: يا الله..هذه دلال! وأصابنا الذهول. فنحن لم نصدق ما سمعناه وشاهدناه. وحتى الجيران والأصدقاءلم يصدقوا ذلك.
لقد كان وقع الصدمة علينا لا يوصف وخاصة على والدي ووالدتي، لكنْ عزاؤنا الوحيد هو أن دلال نالت ما كانت تصبو إليه وحققت حلمها بالعودة إلى فلسطين وكان لها ما أرادت. حيث أنها كانت دوماً تردد: بلادي.. بلادي.. بلادي لك حبي وفؤادي.. فلسطين يا أرض الجدود إليك لا بد أن نعود..
ما قصة الرسالة التي تركتها دلال وما نصُّها؟
بعد استشهادها أحضر بعض الأخوة من المعسكر حيث كانت تتدرب أغراضاً تخصها ووجدنا بداخلها رسالة كانت قد كتبتها قبل توجهها لتنفيذ العملية، تقول فيها: "أبي ما أصعب الكتابة عنك وإليك. وهبتني العطاء والتضحية والإخلاص للأرض، فكنت كفؤاً لذلك، لن أكتب عنك أكثر.
بالنسبة لأمي لن أكتب عنها شيئاً لأنني إن فعلت فإن معنوياتي ستتحطم.
حضرت إلى البيت صباح الخميس، وكان نزولي لأراك ولكن كان حظي زفت. لم أودعك ولم أرك يا أبي، ولكن تأكد مهما غبت.. تأكد بأنني موجودة معك، وأعيش معكم. لا تذرف دمعاً كثيراً، فقد صرت بنتاً للبلاد".
بالكاد أنهى أحمد قراءة نص الرسالة حتى أجهش ومن معه من العائلة بالبكاء. سكت قليلاً وتابع: "قمنا بزيارة غرفة دلال في معسكر التدريب للاطلاع عن كثب على المكان الذي قضت فيه آخر أيام حياتها وكانت قد كتبت على حائط غرفتها فوق سريرها عبارة (واثق الخطوة يمشي ملكاً)".
انتهى اللقاء الذي دام ثلاث ساعات فترك غصة في قلوب العائلة. أما بالنسبة لي فقد أتيحت لي فرصة لأتعرَّف عن كثب من خلال الحديث ومن خلال الصور على بطلة اسمها أضاء سماء فلسطين وأعاد الكرامة المسلوبة للأمة العربية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها