كانت النكبة قبل سبعة وستين عاما ليلا شاملا، وضياعا واسع النطاق، وانسحاق الذات الوطنية الفلسطينية، ومن يريد الاستزادة عن هول النكبة، فليرجع الى ما تركته لنا الذاكرة الشفهية، وما تركه لنا شعراؤنا الكبار امثال هارون هاشم رشيد وابو سلمى ومعين بسيسو ويوسف الخطيب وغيرهم من الرواة الأوائل، كان سؤالهم الأول لماذا نحن غرباء؟ ثم ما خلفه لنا المراقبون الدوليون وأعضاء اللجان الدولية الذين كانوا مكلفين برعاية اللاجئين الفلسطينيين قبل وكالة الاونروا مثل جماعة الكويكرز او غير ذلك من الهيئات والجمعيات الانسانية الأخرى.
كان ليلا وكان عذابا شاملا وضياعا الى حد الموت، فلقد كان الواقع صادما والفاجعة أكبر من أي وصف، كانت نايات القلوب تنوح وكمنجات الايام تذرف الدموع، ولم يبق للفلسطينيين اسما يتنادون به، ولا عنوانا يستظلون به،وكان زعيمهم الأول الحاج أمين الحسيني قد شكل حكومة عموم فلسطين، وكان الاسم فارغا من اي مضمون، ورغم ذلك فان الواقع العربي في ذلك الوقت لم يستطع أن يطيق حتى مجرد ذلك الاسم الفارغ، فنفي الحاج امين الحسيني من غزة الى حلمية الزيتون في القاهرة، ثم نفي من القاهرة الى قرية المنصورية في الجبل المطل على بيروت شريطة ألا لا يزور اي مخيم فلسطيني، ثم نفي بعد ذلك الى نهايته وهي الموت،بعد ان من الله عليه بأن يرى قبل أن يغمض عينيه قيامة جديدة لشعبه الذي فقد اسماءه الحسنى تحت عنوان اللاجئين.
ولكن من قلب ذلك الموت الشامل انطلقت القيامة الفلسطينية، ومن كل مكان وصل اليه الوجع الفلسطيني وبلغه الشتات الفلسطيني كان هناك قيامة، ليس بترتيب من احد، فلقد كان الاشقاء العرب آنذاك عاجزين تماما عن حمل عبء القضية، بعضهم كان يعتبر نفسه الوريث الوحيد للشعب الفلسطيني، وبعضهم لم يكن يستطيع اغضاب بريطانيا التي صاغت المأساه لأنهم كانوا من صنائعها، المهم أن الجرح كان اعمق والعبء كان أكبر، وكان الفلسطينيون يبدأون من ذاتهم فلم يكن قبلهم بداية، وكانوا يصنعون قيامتهم استجابة تلقائية لتحديات وجودهم يكونون او لا يكونون !!! واجتاحت الأجيال الفلسطينية آنذاك كل الأحزاب العربية بلا استثناء الاسلامية واليسارية والقومية، واكتشفوا في ذلك الوقت المبكر ان كل تلك الأحزاب رغم تناقضها الحدي تتحد في شيء واحد، أن تسرق من الفلسطيني سر وجوده وصدفة اعماقه وقدس اقداسه ومبرر حياته وهو انه فلسطيني.
وفي مواجهة هذا الاستلاب القاسي كانت القيامة مذهلة والمحاولات مبدعة، والحضور على مسرح الأحداث ملفت للنظر، من بدايات الحركة الوطنية الى قيام فتح صوت الوطنية الفلسطينية الى انطلاق الثورة المعاصرة الى مخاضات الحضور السياسي بكل الممكنات.
الآن نحن على مداخل الثورة الثالثة، ليس بتكرار النماذج السابقة بل بفهم عميق للزمن السياسي الدولي واستخدام ادواته، بتفعيل ما نملك، فلم يحن الوقت بعد لنكون موظفين عاديين، ولا يمكن أن نبقى نتنافس على الألقاب بلا أدوار، ونتشاحن الى حد القطيعة على حصص الوهم بلا مشروع، ونتسابق في المسافات التي حددها لنا أعداؤنا، ونطلب كل شيء من غيرنا ولا نطلب من أنفسنا أي شيء.
نحن على مداخل الثورة الثالثة، اذا لم نقم بها نحن فسوف يقوم بها غيرنا الى أن نتلاشى في صحراء الوهم، فأعداؤنا يلاحقوننا بانتباه شديد في ادق التفاصيل، وهذه المعزوفات المحفوظة عن ظهر قلب يجب أن نغادرها الى بشائر الثورة الثالثة.