يطرح اليهود اليوم أن القدس في القرآن لا ذكر لها، ورغم أن الآية التي تشير للمسجد الأقصى المبارك واضحة في القرآن (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ-الاسراء1).

إلا أن أبحاث المسلمين قبل اليهود تشير ضمن دلالات عدة إلى أن المسجد الأقصى المشار إليه بالإسراء والمعراج قد لا يكون جغرافيا وتاريخيا في المكان الحالي، وبغض النظر عن النقاش في هذا الباب فإن المسجد الأقصى الحالي ثابت تاريخيا بكل الروايات أنه للمسلمين، وأنه حُدد أو بنى كبناء أومساحة منذ عمر بن الخطاب ولاحقا في زمن عبد الملك بن مروان.[1]

تقول أدبيات المسلمين التالي: قال الرسول عليه الصلاة والسلام:] "عن أَبَي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى"، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ." ولقد وردت روايات تؤكد أن أول من بنى المسجد الحرام هو آدم عليه السلام، وعليه، فإن أول بناء كان للمسجد الأقصى على عهد آدم عليه السلام، أو في عهد أبنائه، قال ابن حجر العسقلاني: "فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس.[[2]

إن استندنا للروايات العربية، والأحاديث الشريفة كما سبق، لا للآثار والتاريخ فيما قاله ابن حجر العسقلاني، فهو يقول "جائز" أي هو غير متيقن تاريخيا من وضع ابن آدم لبيت المقدس،[3] ويقول آخرون "جائز" أيضا أن يكون ولد آدم لم يضع بيت المقدس في جغرافيا فلسطين اليوم، ما قد يفتح الباب أن يكون المقصود في فضاء جغرافي آخر.

  أما ادعاء اليهود لملكيتهم القدس أو أورشليم حسب أبحاث فاضل الربيعي عن المواقع الثلاثة المسماة قدس، وعن أورشليم –المذكورة في نصوص التوراة-كلها في اليمن القديم وليست في فلسطين أبدا.

وإن عدنا لزمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن تحديد موقع المسجد الأقصى في جغرافيا القدس الحالية في فلسطين، قد خضع لتساؤل من الخليفة لم يجب عليه إلا الصحابي كعب الأحبار (اليهودي الذي أسلم) بافتراض المسلمين أنه الأعلم بالتاريخ والجغرافيا والتوراة قطعا، رغم تشكك عمر بن الخطاب الواضح في أهداف وغايات كعب، واليكم مضمون ذلك التشكك بوضوح إذ بعد تحديد كعب لمكان المسجد الأقصى في إيلياء ((استشار عمر بن الخطاب كعبًا: أين يضع المسجد؟ فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة، (القدس شمال مكة، فلو بنى المسجد خلف الصخرة، عندئذٍ من يتجه نحو القبلة في البيت الحرام، ستكون الصخرة حائلاً بينه وبين القبلة) فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود (أي أن كعبًا كان يريد أن يجعل قبلة اليهود والمسلمين واحدة، إلى الصخرة!!) وأمر ببنائه في مُقَدِّم بيت المقدس "أمام الصخرة".))[4]

فإذا كان التشكك من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرجل[5] قائما في غاياته في تحديد القبلة وهذا أمر جلل، ألا يكون التشكك متصلا أيضا بقدرته (أو غايته) من عدمها على تحديد المكان الجغرافيا أصلا؟!ّ بمعنى من المعاني العديدة ألا يحتمل أنه خلط أو قصد الخلط لغاية في نفسه بين جغرافيا القدس (أو أورشليم) تلك (في اليمن القديم)، ومفهوم مكان المسجد الأقصى جغرافيا الذي أصبح لاحقا محددا البيت المقدس للمسلمين،[6] وحيث أنهما –أي المكانين الجغرافيين أيلياء التي فتحها عمر، وتلك القدس أوأورشليم التوراتية ليسا في بقعة واحدة ؟

 القدس المذكورة في التوراة مشار لها ضمن دلالات علمية في 3 مواقع جغرافية مختلفة إضافة لأورشليم التوراة وهي موقع آخر غير القدس حيث يثبت العلماء اليوم أنها أي الأربعة التوراتية مواقع في اليمن القديم[7

أما عن المحاججة اليهودية اليوم المستندة لآيات القرآن الكريم التي يستدلون بها كما بعض التفاسير الاسلامية أيضا على وجود ممالك أو امارات (مخاليف جمع مخلاف بالمصطلح اليمني القديم) لقبيلة بني اسرائيل في فلسطين اليوم استنادا للآيات، فلقد أثبت كثير من العلماء عدم دقة أن ينسب ملك النبي سليمان أوداوود أو موسى أو يوشع لهذه البقعة من الأرض، وحيث يوضح فاضل الربيعي والمؤرخون المستنيرون أمثاله المكان بوضوح لهذه المخاليف (الإمارات) العربية القبيلية في اليمن القديم.

   وعن جدلية مملكة سبأ والنبي سليمان نقرأ الكثير الذي يشير لوجود المملكتين في ذات الحيز الجغرافي أي كلاهما كانتا في اليمن القديم ما يقوض الادعاء في فلسطين.

  ذكر النبي (الملك) سليمان في القرآن 17 مرة في سياق الوصف والعبر وأعطاه الله فهما وحكما وعلما (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) ثم أعطاه الملك (أي السلطة والحكم) وفي قصة مملكة سبأ الاشارة المتكررة في تفاسير المسلمين وقصصهم أن سليمان كان في فلسطين أو في القدس دون أدنى إشارة من القرآن الكريم لذلك، في ظل أنه أشار في الآيات الى موقعين واضحين هما بابل وسبأ وتحدث عن الأرض المباركة دون تحديد جغرافي واضح لها ما يتيح الباب للاجتهادات العلمية والتاريخية.

وها هي بابل واضحة الذكر (وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـَكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) (البقرة15)

وها هي سبأ وها هي القرى المباركة ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ) (سبأ [15]) ويضيف القرآن الكريم أن الله وضع بين سبأ وبين القرى المباركة (أو الأرض المباركة) قرى ظاهره وقدرنا فيها السير أياما وليالي وليس شهورا (المسافة بين اليمن وفلسطين شهورا بالمشي والركوبة) حيث يقول الله تعالى و(َجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ ) (سبأ[18])

 ويورد الطبري[8] أن القرى=المدن=الأرض المباركة حسب الآية هي: الشام أو بيت المقدس، وبينهما قرى عربية بين المدينة والشام وقيل السروات، بينما قال ابن عباس أنها الأرض المباركة دون تحديد للموضع جغرافيا، وقال وهب بن منبه عن المقصود بالآية الكريمة  {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي قرى بصنعاء، وكذا قال أبو مالك.[9] بينما يورد في بحار الأنوار نقلا عن الحسن البصري أن الأرض المباركة هنا هي مكة المكرمة، وما بين منى ومكة أو بين مكة والمدينة القرى الواصلة.[10]

وعليه إن كانت الأرض المباركة واحدة فقط، وليست متعددة فهي تحتمل أن تكون في مكة أو اليمن كما احتملت أن تكون بالشام.

أما حين الحديث عن الأرض التي باركنا فيها في الآية المتعلقة بالملك والنبي سليمان عليه السلام فتقول التفاسير التالي: )(يقول تعالى ذكره (و) سخرنا ( لسليمان ) بن داود ( الريح عاصفة ) وعصوفها : شدة هبوبها; ( تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ) يقول : تجري الريح بأمر سليمان إلى الأرض التي باركنا فيها ، يعني : إلى الشام ، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ، ثم تعود به إلى منزله بالشام ، فلذلك قيل : ( إلى الأرض التي باركنا فيها( )[11]

واليكم مضامين ومعنى "الأرض المباركة" كما يرى الباحث سعد عبدالمطلب العدل: ((قال تعالى : (َونَجْينَاهُ ولُوطاً إِلَى اْلأَ رِض الَّتِي بَاَرْكنَا فِيَها لِلَعالَميَن {71} الأنبياء . لما خرج أبو الأنبياء وتبعه ابن أخيه لوط لم يكن لتستقبلهم أي أرض سوى أرض الجزيرة العربية لانها خارج حدود المملكة المصرية ٬ ولكنا نفاجأ بأن كل كتب التفسير بلا استثناء تجمع على أنها أرض فلسطين ٬ وهذا في حد ذاته خطأ كبير ويناقض في حقيقة الامر الآية القرآنية التي ينطلقون منها إلى هذا المعنى ؛

( ولِسليَماَن الِّريَحَ عاِصفَةً تَجِري بِأَمِرِه إِلَى اْلأَرِض الَّتِي بَاَرْكنَا فِيَهاَ وُكنَّا بِكّلَ شْيٍءَعالِميَن {81} الأنبياء .

ويقولون في تفسير هذه الآية من سورة الأنبياء أن الأرض المباركة هنا هي أرض فلسطين ٬ دون أن ينوهوا إلى أي إشكالية في الموضوع ٬ وكانها بديهية من البديهيات ٬ وهي وللحق ليست بديهية .

فالملاحظ أن الآية التي صدرنا بها هذا المقال هي آية رقم (71) من نفس السورة (الأنبياء) ٬ أهذه مصادفة أم أن الله تعالى أراد أن يورد لنا معلومة جغرافية في خط سير القبيلة الموحدة ٬ وأراد أن يشرحها في الآية رقم (81) سالفة الذكر ٬ ولكن ماذا حدث ؟ لقد فشلنا في تفسير الاثنتين ٬ ألا يدعو هذا للحسرة !!

ولنحاول الآن أن نسترجع ما فاتهم في تفسير الآية (81) : (َولِسلَيَماَن الِّريَحَ عاِصفَةً تَجِري بِأَمِرِه إِلَى اْلأَرِض الَّتِي بَاَرْكنَا فِيَهاَ وُكنَّا بِكِّلَ شْيٍءَعالِميَن {81} الأنبياء . فإذا قلنا إن سليمان كان مقر حكمه في أرض الشام فلسطين ٬ فالبديهي أنه عندما تجري الريح مسخرة بأمره يكون اتجاهها إلى مكان آخر وليس إلى حيث يقيم ٬ لأن حرف الجر (إلى) يفيد الإرسال في اتجاه آخر غير الذي نحن فيه .

ويكون الأْولى أن نقول أنه يسير الريح إلى أرض أخرى غير فلسطين تكون مباركة . فما تلك الأرض المقصودة إن لم تكن أرض الحجاز ؟ .

وقد يثير البعض تساؤلا "ما الحكم إذن في آية سورة الإسراء : (ُسْبَحاَن الَّذي أَسَرى بِعْبِدِه لَيلاً مَن اْلَمْسِجِد اْلَحَراِم إِلَى اْلَمْسِجِد الأَ قَصى الَّذي بَاَرْكنَاَحْولَهُ  (1) الإسراء .

نقول بأن المسجد الأقصى المبارك حوله لا يستتبع بالضرورة أن تكون الأرض التي يقع فيها مباركة بالضرورة ٬ إضافة إلى ذلك أنه على طول مراحل التاريخ المعروف لم تظهر على أرض فلسطين أي بوادر للبركة ٬ فالحروب والفتن هي السائدة في هذه البقعة إلى يومنا هذا .

فلا يبقى لنا الآن إلا أن نسلم بأن الأرض التي بارك الله فيها للعالمين فحفظها وأمنها هي أرض الجزيرة العربية ولا ريب . ويكون معنى الآية رقم (71) ­ من سورة الأنبياء : (ونجى الله إبراهيم ولوطا من أرض الظالمين المعتدين الوثنيين إلى الأرض المباركة وهي أرض الجزيرة العربية .

ويكون معنى الآية رقم (81) : (سخر الله لسليمان الريح يجريها بأمره إلى الأرض المباركة لكل العالمين التي هي سورة النمل والأرض المباركة أرض الحجاز . لأنه لا حاجة به للدوران في مكانه بل يسخر الريح لتنقله من أرض فلسطين حيث هو إلى أرض الحجاز المباركة حيث يريد.))[12]

ويقول الشيخ د.محمود أبوالهدى الحسيني الخطيب في مسجد حلب في تفسيره المحدد لذات الآية الكريمة 81 من سورة النمل أن مملكة سليمان لم تكن في فلسطين أبدا.[13] و يذهب مؤكدا أن القرآن الكريم يكذّب جهرة أن يكون للملك والنبي سليمان أي وجود في فلسطين كما يدعي يهود اليوم مشيرا إلى أنه: لو قال الله تعالى في الآية (مِن) وليس (إلى) لفهمنا أن مملكة داوود كانت في الأرض المباركة -على فرض أنها فلسطين- لكن الآية قالت إلى الأرض المباركة، فتكون مملكته ليست في فلسطين قطعا.

إن تحديد الشام (يقصد بها فلسطين والأردن وسوريا ولبنان) بأنها مقدسة هنا-أي لدى غالب المفسرين المسلمين- لا يعني –على فرضية صحة الجغرافيا-أنها في القدس أو فلسطين، فأطراف كثيرة من بادية الشام قديما تقع اليوم في العراق والسعودية، عدا عن أن ما يورده المفسرون ويعتبرونه بديهية غير واضح المصدر كليا، ما يعني أنهم أخذوا بالمشهور والمتداول، والمشهور والمتداول حينها هو روايات مفسرو التوراة لا سيما أنهم أهل كتاب فكانت رواياتهم تؤخذ بعناية، ما أصبح هذا المكان جغرافيا اليوم مجال تشكك حسب الدراسات الحديثة الموثقة وحسب علم الآثار كما أسلفنا.

ولدينا هنا في مختلف الآيات وتفسيرها عدة أقوال تتعرض "للتحديد الجغرافي" للأرض المباركة أوالمقدسة التي ذكرت في عهد موسى،[14] وتلك لسليمان وداوود، وتلك في سبأ، فإن كانت الأرض المباركة واحدة، أي في منطقة واحدة بعينها في كل العصور والأزمان، يصبح الدليل خاضعا للفحص والتحري العلمي أيها المقصود، والأصوب أن تكون في الحجاز أي في مكة المكرمة لأن قدسيتها وبركتها ليست محل جدل.[15] أو يتم التعامل مع كل حدث تاريخي ضمن جغرافيته فلا تكون الأرض المقدسة أو المباركة حيثما وردت تعني نفس المكان.

وإن كانت الأرض المباركة ليست في مكان واحد، أي أنها منتشرة ومتعددة ما بين الشام والقدس أواليمن أومكة حسب المرويات المختلفة، وحسب الزمن والعهد فإنها أيضا بحاجة لتحقيق، حيث لا تثبت الآثار مطلقا أي وجود لأنبياء التوراة كلهم لا في مصر ولا في فلسطين.