الآن، وقد امتلأت جيوبنا بالشواكل، وعادت الحركة إلى شوارع وأسواق قطاع غزة، كما هو الحال في رام الله، بإمكاننا أن نتعاطى ونتداول بأيّ شأن كان، إذ إن البطون الخاوية، كما الجيوب الفارغة، لا تتيح لصاحبها أن يفكر بعقل مفتوح، ولا أن يستمع أو يهتم بما يقوله الآخر، الآن وبعد أن أصبح بالإمكان تناول الأمور بانفتاح وهدوء، ليس كما كان الأمر عليه عندما شاركت في نقاش جرّني إليه بعض الزملاء، من مثقفين وفنانين وكتّاب وصحافيين وعاملين في منظمات المجتمع المدني، في "الغاليري"، وهو الذي احتضن، ولا يزال –على ما أظن- أمثال هؤلاء من كل الأطياف، على فنجان قهوة وأنفاس "أرغيلة"، باعتبار هذا المكان متنفساً فريداً في مدينة غزة، ليس فقط لأن أسعاره مدروسة، ولكن لفضائه الواسع، جغرافياً وثقافياً، إذ إن هذا النقاش كان حاداً ساخناً، لأن الحديث كان عن أزمة الرواتب التي عصفت باقتصاد السلطة قرابة أسبوعين، ولأن معظمنا كان مفلساً، فإن لتلك السخونة والحدّة، ما يبررها، على أن أجواء التسامح والصبر والتفهم سادت هذا النقاش، الذي لم تتمكن أنفاس الأرغيلة من تغييبه أو التغطية عليه.

قال أحد الزملاء: إن بإمكان فياض، لو أراد، حلَّ هذه الأزمة، على الأقل من خلال الاستدانة من البنوك، كما فعل أكثر من مرة في ظروف مشابهة، لكن فياض لا يريد.. مع أنه يحمل مفتاح خزائن الغرب، لكنه لا يريد لأسباب تتعلق ربما بإبعاده عن رئاسة الحكومة الجديدة، ويريد التأكيد على أنه العنوان الوحيد لحلّ الأزمات المحتملة من خلال الامتناع عن حلّ أزمة الرواتب!

اعترض زميل آخر، أعرفه شكلاً، ولا أعرف اسمه، ولكن تبين لي فيما بعد أنه أحد العاملين في المنظمات الدولية.. قائلاً: إن فياض يعلم، كما نعلم جميعاً، أن الأزمة ليست مالية، بل هي سياسية بالدرجة الأولى، وحسناً فعل عندما أفشل الخطة الإسرائيلية الرامية إلى صرف الأنظار عن هذه العوامل السياسية للأزمة، التي من خلالها تبين مسؤولية دولة الاحتلال عن كل أزمات الشعب الفلسطيني، وعناد فياض هو الذي ضغط على الإدارة الأميركية وعواصم الاتحاد الأوروبي للضغط على إسرائيل، ولولا ذلك، لاستسهلت دولة الاحتلال استخدام "الضرائب" لتعاقب الشعب الفلسطيني، صحيح أن فياض كان بإمكانه أن يحل الأزمة، لكنه بذلك، يفتح الباب أمام أزمات المستقبل، ويخلي إسرائيل عن مسؤوليتها كدولة احتلال تتلاعب بالاتفاقات والعهود كما تريد، صبرتم كثيراً في السابق، فلماذا لا تصبرون حتى تنجح الضغوط وتعود الرواتب من دون تقديم تنازلات تليها تنازلات عديدة!

هنا قاطعه زميل آخر، بالقول: إنه لا يتلقى راتباً من السلطة، وعليه فهو لا يحس بما يحس به الموظف العادي، الذي لا دخل له سوى راتبه من السلطة. فرد عليه الزميل السابق بالقول: إن هذا صحيح، لكني اضطر لمساعدة إخوتي، الموظفين وعائلاتهم، وأنا معني، كما أنت، بحل أزمة الرواتب، لأن الأزمة تشكل عبئاً عليّ بالضبط كما هي عبء على الموظفين في السلطة، وهذا حال البلد كلها، وكلنا عرضة لمثل هذه الأزمات وإنْ بدرجات متفاوتة.

مشارك آخر في هذا النقاش، لفت الانتباه إلى مسألة أخرى، مشيراً إلى أنه كما هو معروف موظف لم يتسلم راتبه كالآخرين، لكنه مع ذلك يشعر بالاطمئنان، هذه المرة، وليس كمرات سابقة تم فيها قطع الرواتب، هذه المرة، يقول هذا الزميل، لدى الموظفين شعور مؤكد أن الرواتب لن تتأخر، هناك تأفف منطقي، لكن مع ذلك، هناك اطمئنان مؤكد أن الحل بات قريباً، هناك ثقة مطلقة بسلام فياض، هي أصل وفصل هذا الاطمئنان، الثقة بقدراته وإمكانياته ومسؤولياته، هي التي تخفف من حدّة الأزمة، هذا شعور سائد لدى معظم الموظفين، إنْ لم يكن لديهم جميعاً. إذا إن فياض، عنيد عندما يتعلق الأمر بالإسرائيليين، وهو على استعداد لأن يفقد موقعه على أن يخسر موقفه، هو في حالة تحد.. وعلينا الوقوف معه وليس من خلفه فقط، لأن المسألة تخصنا جميعاً.

ولدى حديث هذا الزميل عن "الموقع والموقف"، فإن مسألة تشكيل حكومة التكنوقراط فرضت نفسها على النقاش، خاصة حول ما قيل عن استبعاد فياض، وأن هناك احتمالات لعقد صفقة، إذ إن "حماس" ليست هي التي ترفض بالمطلق تكليف فياض، بل إنها ترى أن الرفض هو في الأصل من حركة "فتح"، وهي، أي حركة "حماس"، تريد مقابل إصرار الرئيس على فياض، أن تضغط باتجاه تعيين وزراء بعينهم من المقربين لها، في وزارات رئيسة، مع أن الرفض لفياض هو من قبل حركة "فتح" أصلاً، هي مفاوضات، لا تفتح بها الأوراق إلاّ في نهايتها.

وكان فياض، بطبيعة الحال، هو عنوان هذا النقاش الواسع الذي استفز أحد الزملاء، الذي قال: إنكم تتحدثون عن فياض باعتباره فاتح خزائن الغرب، جابي أموال لإنعاش الاقتصاد المتأزم، الوصي على بيت المال الفلسطيني، وهو مطلوب بالنسبة إليكم جميعاً لهذه الاعتبارات، مع أنني أرى خلاف ذلك، أو أكثر من ذلك كله، باعتباره الذي أقام أسس الدولة الفلسطينية المرتقبة، القائمة على المؤسسات وخطط التنمية، في ظل مجتمع مدني تسود فيه الشفافية والمحاسبة وسيادة القانون، وصاحب المبادرات التي أسهمت في الحصار الدولي على إسرائيل، والذي فاجأ الكثيرين عندما تقدم باقتراح حل المسألة الأمنية، الأمر الذي أزال الملف الأمني الشائك من ملف المصالحة، وجعل الوفاق ممكناً، هذا بعض من هذه الشخصية التي اكتسبت ثقة المواطن الفلسطيني قبل المؤسسات الدولية، التي باتت تحسدنا كوننا في فلسطين تقدمنا، رغم الاحتلال، في بناء مؤسسات الدولة، مقارنة بدول عريقة مجاورة، حديثكم عن فياض –يضيف هذا الزميل- ليس فيه من الاحترام ما يكفي عندما تنظرون إليه، باعتباره "منقذاً مالياً"، وليس رجل دولة، تعتبرونه رجلاً يتسول من أجلكم لإنقاذ أطفالكم، وليس بصفته صاحب مشروع وطني، يتشارك فيه مع المبادئ التي رسمها الرئيس عباس، الذي بدوره يدرك أنه ليس من قادر على تحدي صعاب وعقبات المرحلة اللاحقة، سوى فياض، ليس حباً فيه، بقدر الرهان على ما يتمتع به من خصائص وقدرات وإمكانيات وشعبية متزايدة، الأمر الذي تتطلبه استحقاقات المحطات الرئيسة القادمة، خاصة لدى التوجه الفلسطيني إلى الجمعية العامة ثم مجلس الأمن، من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كعضو كامل العضوية في المنظمة الدولية!!