بعد عشرين عاماً على رحيله (29آب 1987) عادناجي العلي ليظهر على الجدار العازل في فلسطين، وفي الكثير من الأماكن والصحف التيلم تستطع نسيانه، ولا نسيان الرصاصة التي وجهت إلى رأسه.

يعود ناجي العلي دائماً على هيئة طفله«حنظلة»، الذي رافق مسيرته وضبط إيقاع خطوطه وبياناته الكاريكاتورية، يدير ظهرهللمغتصبين والساكتين على الاغتصاب والمتخاذلين في استعادة الأرض. بعد عشرين عاماًلا يزال حنظلة يعلن رفضه وتبرمه مما يحدث عن يمين الجدار وعن يساره، من محيطالعالم العربي حتى خليجه، يطلق صراخه من خلف الكوما التي ضربت رأسه، ومن تحت أظافريديه المعقودتين خلف ظهره، أو من رؤوس خطوطه الساهمة كالبوصلة إلى عدو واحد.

لم يكن اغتياله قبل عشرين عاماً فيلندن مفاجأة له أو لعارفيه، فهو القائل: «كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاًعن لوحة واحدة». كان يعرف أنه برسومه يمزق أقنعة كثيرة، ويدك عروشاً أو كروشاًكثيرة، وينفّذ رسالة حملها منذ تفتح وعيه على الثورة الفلسطينية، ومنذ خرج منقريته «الشجرة»التي استظل فيء إحدى شجراتها السيد المسيح، فتتلمذ على صليبه، قبل أن ينتقل إلىعهدة أساتذة آخرين. فتعلم دروساً في القومية العربية على يديّ المناضل أحمداليماني (أبو ماهر)، قبل أن يكتشفه غسان كنفاني فناناً ويطلق رسومه في مجلة«الحرية» أول درجة في سلّمه الفني، ثم يعلمه كيف يدق جدار الخزان ويؤذن بأفكاره منأعلى المنابر.

سلاح الكاريكاتور
الفنان الملتزم قضايا شعبه نقل الرسممن «الشخطرة» المشاغبة والتحفير على جدران مخيم عين الحلوة، التي شكلت فسحة رسومهالأولى، إلى جدران الثكنات اللبنانية التي سجن فيها مرات عدة، كونه يشكل «خطراً»على أمن الدولة، إلى الصحف العربية التي بدأ بها إطلالته الواسعة على الجمهورالعربي، بدأها بمجلة «الطليعة» الكويتية، وأنهاها بمجلة «القبس» الدولية في لندن،على أن محطته الصحافية الأساسية التي أمضى فيها أطول عمره الفني وأنتج على صفحاتهاأكثر رسومه كانت جريدة «السفير» البيروتية التي رافق صباحاتها من عام 1974 حتى عام,1982 عندما شكل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت حداً فاصلاً بينه وبين تلك المدينةالتي بقي يقول لها كل يوم «صباح الخير يا بيروت» حتى عندما احتلها العدوالإسرائيلي ذات يوم منذ ربع قرن.

عندما استشهد ناجي العلي كان نتاجه وصلإلى ما يقارب أربعين ألف رسم كاريكاتوري، تشهد على ريادته هذا الفن، وإن كانتأحلامه بالتخصص الأكاديمي تبددت، ودراسته لم تتعدَّ ما وصله من تعلّم الرسم في«جعفرية» صور، وبعض ما تعلمه في الأكاديمية اللبنانية خلال سنة أمضى معظمها فيالسجون اللبنانية بسبب «شغبه» الدائم، وقدغدا السجن مفتاح غضبه وصراخه الذي أسمع من به صمم في العالم. وليس بسيطاً أن يتحولالشاب الحالم بأكاديميات روما والقاهرة واحداً من بين أشهر عشرة رسامي كاريكاتورفي العالم، عندما اختارته صحيفة «أساهي» اليابانية فيهذا المقام.

وكان قبل ذلك قد حصد جوائز أولى في معرضي الكاريكاتور العربي في دمشق(1979,1980).

ثم بعد استشهاده وصفه الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس بأنهواحد من أعظم رسامي الكاريكاتور منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه جائزة كان أولرسام وصحافي عربي ينالها.


استطاع الفنان الذكي، الممتلئ رغبة فيامتلاك سلاح الكاريكاتور، أن يتعلم بنفسه من أساتذة الكاريكاتور العرب أمثال صلاحجاهين وحجازي وبهجت عثمان وبيار صادق وسواهم، إلا أنه عمل دائماً على قتل آبائهوالتفلت مما تحصده عيناه من رسوم، ساعياً للبحث عن وسيلة أكثر تبسيطاً لإيصالأفكاره ومقولاته ووعيه الحاد، إلى أن تربع على كل هذا النتاج الذي يشهد على موهبةيبقى صداها يتردد طويلاً في عالم الكاريكاتور.

كل هذا المجد
ما الذي جعل ناجي العلي يعيش كل هذاالمجد الفني؟
سؤال للإجابة عنه لا بد من الوقوف أمامالأسباب التالية:
1
كان ابن شعبه، عاش، منذ طفولته، مرارتهوهمومه وقضاياه وفقره والنكسات التي أصيب بها، فالعلاقة المباشرة تلك أغنت تلكالحركة التلقائية في رسومه، وجعلت الرسم ينبع من داخل الفنان ومن قناعاته ومشاعرهالصادقة.

2 لأنه ابن القضية كان لا بد من أنيتفانى لخدمتها بكل الشجاعة المطلوبة، ما جعل رسومه تقف على خط الدفاع الأول، مندون أن يقدم أي تنازلات أو يخضع لأي إغراءات، ومن دون أن يكترث للخطوط الحمر التيتوضع في وجهه ولا للتهديدات التي كان يتلقاها، والتي رسم آخرها خاتمة لحياته. وهوالقائل: «كلما ذكروا لي الخطوط الحمر طار صوابي. أنا أعرف خطاً أحمر واحداً إنهليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل».

3 الارتفاع فوق الواقعية الساذجة، بمزيدمن خلق حالات شعرية، تجعل الرسم يتوالد ويتضاعف في نظر المشاهد.

4 لأنه رسام مثقف، استطاع أن يجد للرسمأبعاداً ويفتح أمامه آفاقاً معرفية وفكرية تغنيه وتجعله أكثر كثافة وأكثر فاعلية.

5 مستوى الذكاء الذي يتمتع به جعلهقادراً على اختزال الموقف السياسي، واختصار الحدث بخطوط قليلة ومبسطة وبعدد قليلمن الكلمات.

6 استطاع العلي، الذي يتابع يومياتالأحداث في عموم الوطن العربي، بكل ما يجري فيه من شؤون وشجون، أن يجعل رسومهتنتشر في كل الدول العربية، حتى باتت سجلاً وتأريخاً لأحداث المنطقة، إلى درجة أنقارئ أو مشاهد كتبه الأربعة التي تجمع نتاجه يستطيع أن يعرف تاريخ الأحداث ومايحيط بها من مواقف.

7 لعل التزامه العام قضية شعبه وقضاياشعوب المنطقة، من دون أي التزام حزبي أو إيديولوجي، جعل مروحة مواقفه واسعة، بلأكسب حركة رسومه حرية وارتفاعا عن أي ضيق أو تزمت أو عصبية.

8 قدرته على الاستشراف والتبصر فيالأحداث، بحيث يستطيع، ببعد نظره، أن يبني مواقفه الحاضرة على رؤيا صالحةللمستقبل، وهذا هو سر بقاء فنه حياً بعد عشرين سنة من رحيله، وبقاء رسومه صالحةللنشر في مناسبات عدة.

9 تماشت في رسومه الخطوط والنصوص، بحيثكانت البساطة الموحية تجمع طرفي عمله، فالجملة عنده مكتوبة بالعصب أو التوتر نفسهالذي يحرك به خطوط أشكاله.

10 صحيح أنه ابتعد في رسومه عن النخبويةوالذهنية والغموض المحبب لدى البعض، إلا أن خطوطه البسيطة كانت قادرة على جذب فئاتكثيرة من الناس، ذلك أن الذكاء في صوغها والنأي بها عن المبالغات أو التكلفالتشكيلي جعلا رسومه مقبولة من الجميع.

11 تطور شخصياته جعل الناس يتعلقون بهاوبرسومه، بحيث ينتظرون دائماً جديده بشغف، فلا يملّون شخصية تتكرر ولا رمزاً يطولاستخدامه. فالشكل ينمو على درجات حرارة مختلفة، ويتحول، ويبني علاقته الخاصةبالمشاهد أو القارئ؛ الشخص المتكرش الذي يرمز للسلطة، الذي كان يمشي على أقدامهالثقيلة، صار بعد فترة بلا أقدام، يمشي زحفاً على بطنه كالفقمة نحو مرافئالاستسلام. حتى حنظلة الذي اعتبره الجميع بمثابة توقيع له في رسومه فلم يتركه علىثباته وعلى جمود هيئته، بل غيّر بعض حركاته، خصوصاً حركة يديه.

12 بنى لغته مع الناس، بحيث قدم إليهممجموعة من الرموز التي صارت معروفة لدى متابعيه، وليست صعبة على من يراها للمرةالأولى؛ شخصية المرأة الفلسطينية فاطمة، الزوج المهزوم أو الذكورة القابلة دوماًللاستسلام، الغني والفقير، الحمام البعيد عن شكله المعروف والقريب من شكل الغراب،شخصية الرجل السمين بمؤخرة شبه عارية. بنى ثنائيات ينحاز بينها لطرف من الطرفين،وهو على العموم منحاز إلى الفقراء والمحكومين والحزانى والمغلوب على أمرهموالمغتصبة أرضهم. الرموز تتكرر عنده،تتطور، وإذا بقيت كما هي فإن الواقع المحيط بها يتغير ويتبدل، فتبقى الحيوية قائمةوالطراوة التي تستقبل العين حاضرة في الرسوم.

13 خطوطه الرفيعة والسميكة والخشنةعموماً، بعيدة عن الصخب والافتعال التأثيري، لكنها تحافظ على قدر كبير من الحيوية،من دون أن تقع في أي بلادة مملة أو قولبة قاتلة.

14 في تبسيط رسومه بعدٌ عن التجريد، مندون الغرق أيضاً في التفاصيل.

15 بعيد عن أي استعراض لمهاراته، وهو فيالأساس يهتم بإيصال الفكرة بأقرب السبل، حتى لو كانت وعرة، ومع ذلك فإن قدراتهالفنية وقدرته على التقاط إشارات الأحداث هما اللتان رفعتا القضية إلى السطحوأدخلتها العقول. ولا يستطيع أن يدعي أحد أنه كفنان استغل القضية يوماً لإعلاءشأنه وشأن فنه.

16 كان لحضور شخصيته الخاصة حنظلة وقعكبير في نفوس متابعيه، إذ شكل هذا الرمز اللغز المحبب لديهم: كيف أتى إلى مخيلةصاحبه؟ لماذا يدير هذا الطفل ظهره للعالم؟ لماذا يحمل رأساً يشبه الشمسباستدارتها؟ لماذا يضع يده خلف ظهره؟ وأسئلة كثيرة لا تنتهي تشكلت حول هذه الشخصية.

حنظلة
ولد حنظلة في ,1965 مع ولادة المقاومةالفلسطينية، وقد رآه العلي «بمثابة الإيقونة التي تحفظ روحي من الانزلاق، وهو نقطةالعرق التي تلسع جبيني إذا ما جبنت أو تراجعت».

ولد عام 1965 رسما في الكويت، إلا أنهلمّا يزل ابن العاشرة فقط. حنظلة هو ناجي العلي الطفل الذي اقتلع من أرضه، وهولمّا يزل في تلك السن، لا يكبر إلا عندما يعود إلى فلسطين. حنظلة إذاً هو ضمير ناجيالعلي الذي استحضره عندما خاف أن تجرفه الحياة في الكويت، فأراده أن يوقظه كلماغفا عن خطأ أو خطيئة، أو تغافل على موقف مهين للقضية. وإذا كان ناجي العلي قد رحلفإن طفله هذا سوف يبقى طفلاً لا يشبّ وينمو إلا في أرضه وعلى ترابه فلسطين.

ولد حنظلة فلسطينياً، لا شك، إلا أنهتدرج في عروبته وانتمائه إلى أن أصبح إنسانياً يحمل على ظهره كل قضايا العالم العادلة،وكل المرارات الفلسطينية. لذلك فالطفل لم يعش طفولته، ولا مرح هذه الطفولة. هو لميلعب أو يعبث مع أصدقائه، إنما ولد والسلاح بيده، سلاحه تلك الريشة التي سببتالكثير من الجروح وضمدت الكثير منها في آن. كان سلاح الطفل قاسياً ونظرته قاسية،وسوف تبقى كذلك حتى يعود إلى أرض مغتصبة.

بالأسود والأبيض، إذاً، نتذكر كيف أنناجي العلي اهتم أكثر ب«شرقطة» الفكرة أكثر من التفنن بالخطوط والذوبان فيهاوالبحث عن مفاجآت وإدهاش فني... بالأسود والأبيض نتذكر الذي كان يخمّر فينا الحزن،من صباح إلى آخر، وقد حذف من لغة الكاريكاتور السخرية التي تقود العين إلىالضحك... ولو من وجع