خاص/ مجلة القدس، إسمه الأصلي رؤوفنظمي ميخائيل عبد الملك صليب. أما إسمه الذي صار حكاية رفيعة من حكايات النضال الفلسطينيفهو "محجوب عمر". وقد كان من حُسن طالعي أنني ترافقت وإياه خمس سنوات كاملةفي مركز التخطيط الفلسطيني، من سنة 1977 حتى سنة 1982، وكنا في الطبقة نفسها من مبنىالمركز. قبل ذلك أتيح لي أن ألتقيه مرات قليلة، لكن مقادير من حياته في الأردن سبقتهإلينا، وشاعت بيننا، وشوّقتنا إليه في الوقت نفسه. ومن الحكايات التي تروى عنه أن إحدىالمريضات ذهبت الى عيادته في الأردن تشكو وجعاً ما، فوجدت شخصاً ينظف العيادة، فاعتقدتأنه الممرض، وطلبت إليه إدخالها على الطبيب. فما كان منه إلا أن طلب منها الانتظارقليلاً، وتابع تنظيف العيادة. فاستاءت المريضة، ومع ذاك قعدت تنتظر الطبيب. ولما انتهىمحجوب من شطف الغرفة، توجه اليها قائلاً: تفضلي يا أختي، ممَّ تشكين؟ فصرخت في وجههقائلة إن عليه أن يدخلها فوراً الى الطبيب، لا أن يسألها عمَّا تشكو. وحين أخبرها أنههو الطبيب، تعجبت، وأنِسَتْ إليه.

كان محجوب شيوعياً،لكنه، حين دهمته هزيمة حزيران 1967، غرق في حال من التأمل، وراح يراجع افكاره وخياراتهالسياسية. وكان اسم "فتح" قد بات يتلألأ في سماء العالم العربي، واكتشف أنطريق "العاصفة" هو الرد الحقيقي على الهزيمة. فاختارها، وترك كل شيء وراءهوالتحق بها.

قبيل سفره الىالأردن من الجزائر في أيار 1969، جمع ملابسه المدنية وأرسلها الى صديقه قدري حفني فيالقاهرة، وطلب اليه تسليمها الى عائلته. وعندما تسلم شقيقه مراد الحقيبة انفجر من البكاء،فقد اعتقد ان محجوب قد مات.

أطلق على منطقةالفاكهاني والجامعة العربية اسم "المربّع". وكان يقول إنه المربّع الأخيرللثورة الفلسطينية، فاحترسوا من الاساءة للناس. وصدق حدسه. وفي هذا المربّع تعرف الىمنى عبدالله العاقوري، المناضلة اللبنانية الفريدة التي كرست نفسها لمبادئها وله، فتزوجا،وبقي هذا الزواج شبه سري إلا لعدد محدود من أصدقائه المقربين. وكانت منى دائماً رفيقتهوأمه التي تصغره عمراً بحسب السيد هاني فحص.

علّق على حائطمكتبه في مركز التخطيط لوحاً كان يكتب عليه ما يخطر في باله من أقوال وحِكَم وأشعاروآراء وفكاهات، ويوقعها باسم "جَمْهَرْ" (مفرد جماهير) أو "خدام اللطافة"،وكان زواره يخطّون تعليقاتهم على اللوح نفسه أحياناً. وفي هذا المكتب المجاور لمكتبيتعرفت الى قدري حفني وأحمد صدقي الدجاني وروجيه عساف وفانسيا ردغريف ونزيه قورة ومحمودالعالول ونصر يوسف وجواد ابو الشعر وخليل عكاوي (ابو عربي) وأنيس النقاش وهاني فحصوكثيرين جداً من شبان "الكتيبة الطلابية" وشاباتها،وفي المكتب نفسه كانتالاصوات تضج بصخبها الذي لا ينتهي من السجال والنقاش والاختلاف.

في احدى لياليالاجتياح الاسرائيلي في سنة 1982 التقيته في أحد الاماكن، وكانت القوات الاسرائيليةاجتازت نهر الأولي نحو الشوف وقلت له ان الانباء المتواترة تشير الى ان الجيش الاسرائيليسيتوقف عند نهر الدامور. فضحك مني وقال لي: فكِّر قليلاً. لماذا سيتوقفون عند الدامور؟ولماذا لا يصلون الى بيروت؟ جهِّز نفسك لحصار طويل وقتال شرس، فسيصل الاسرائيليون الىبيروت قريباً. وهذه المرة "ضبطت" مع محجوب.

ما هبطت القاهرةمرة الا وكانت زيارة محجوب ومنى عبدالله هدفي المعلن او المكتوم والمضمر معاً. بعدعودته من لبنان أقام في المنيرة بالقرب من السيدة زينب. وفي إحدى المرات كنت في منزله،وجاء السيد هاني فحص، وتغدينا معاً، وصلى هاني فحص في منزل القبطي وفي منزل المارونية.وأنا "تباركت" بالثلاثة. وفي السيدة زينب دعاني محجوب ومنى مع مستشرقة أوروبيةالى العشاء في الشارع. في الشارع؟ قلت له: فأجابني: نعم، في الشارع، وسترى القاهرةالحقيقية، وهي غير التي تراها من فندق "شبرد" أو من شوارع "غاردن سيتي"إنها قاهرة ما بعد العاشرة ليلاً؟ حين تهبط ابواب المحال، وترتفع أمامها فوراً الطاولاتوالكراسي والمطابخ  المتنقلة، وتبدأ حياة أخرىتماماً.

طوى محجوب عمرسنوات عمره فارساً مكافحاً ومناضلاً ومفكراً وكاتباً وباسماً في كل وقت، ومتفائلاًفي جميع الاوقات، وكان أمثولة نادرة في الزهد والتفاني والتواضع والحنو لهذا صارت سيرتهحكاية تروى في صعيد مصر وفي جنوب لبنان وفي فلسطين التي امتلأت أزاهيرها بعطر هذا"الحكيم" الذي لا يتكرر.