ينطلق صوت الختيار مدويا معلنا باسم الله وباسم الشعب الفلسطيني استقلال دولة فلسطين بعد منتصف ليلة الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر من العام ثمانية وثمانين وتسعماية وألف في سفر الوطن.

على أرض الجزائر، بلد المليون ونصف المليون شهيد، وفي قصر الأمم للمؤتمرات الواقع غرب العاصمة على شاطئ منطقة سيدي فرج التي نزلت بها السفن الفرنسية عام 1830 لاحتلال الجزائر والتي بقيت تناضل على مدار أكثر من مئة وثلاثين عاما حتى نالت استقلالها الوطني.

***

على الرغم من معرفة العالم قاطبة المسبقة بأن الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني هي دورة اعلان الاستقلال، الا أن صحفيا أجنبيا وكانوا بالمئات علق على الهواء مباشرة وهو ينقل وقائع الجلسة الختامية بعد اطلاق الختيار عبارته قائلا:

«بسم الله وباسم الشعب الفلسطيني...»

«يا الهي.. إنهم يعلنون الاستقلال»!

يتصافح الجميع ويتعانقون، وتدب الفرحة في أروقة قصر المؤتمرات، وتتعالى الأهازيج والزغاريد، ويهرع الجمع باتجاه «ابو جهاد» لكي يحملوه على الاكتاف، كونه مهندس الانتفاضة، ومسؤول القطاع الغربي، يتشبث ابو جهاد بالأرض، يلتصق بها. عمل بصمت ودون مظاهر، يكتسي وجهه بحمرة الخجل لسماعه أية عبارة أو كلمة لا تليق. متواضع في اللباس بسيط في المعاملة. يحاول الجمع رفعه عنوة لكنه يأبى ويلتصق بالأرض، وأخيرا يعز على المحاولين رؤيته ساقطا على الأرض فيتركونه.

لم نكن نعلم ان تلك المرة الأخيرة التي نراك فيها ممددا على الأرض فقد كانت العقد التوراتية بانتظارك في (سيدي بو سعيد) بخمسة وسبعين طلقة، وعندها فقط عانق ابو جهاد الأرض إلى الأبد.

انهض يا خليل هذا وقت الغمام

انهض هاجرت أسراب الحمام

انهض واحمل نعشك مع ملايين العرب

الى الأمام الى الأمام

انهض صدئ الرمح وانكسر الحسام

يرتفع التراب رويدا رويدا، ينهض أبو جهاد ويلملم عظامه، ثم يحملها على كتفيه ويسافر باتجاه فلسطين.

كم قبرا ينتظرنا في المنافي

كم قلبا ينتظر الحنين

كم حجرا يسقط من السماء

غيوم لا تلين ولا تستكين

هم الأولاد يولدون تارة من رحم اليأس

وتارة من حد السكين

أعوام وأعوام وانت الدليل ما انحرفت بوصلته عن فلسطين

من اللد الى غزة الى الأغوار الى صنين

من أين أتيت بكل هذا الصبر وهذا الحنين؟

لم تهدأ يوما، لم تسترح يوما ولم تفقد الأمل حتى عندما امتطيت البحر، وخرجت الى المنافي القسرية مرات ومرات، من أرض الحجاز الى الجزائر، ومن الفيحاء الى الجنوب، ومنه الى أرض الله الواسعة.

لم نرك غاضبا، ولم نرك محبطا، ولم نسمع منك كلمة واحدة تجرح. كنت الأخ والصديق، فلماذا تركتنا دون وداع؟

تبكيك الشعوب المقهورة في القارة السوداء

يبكيك الأحرار الذين عرفوك مناضلا لا تلين

يبكيك مناضل أممي كفر بالايديولوجيا وآمن باليقين

يبكيك الاوراس الذي خطوت منه الخطوة الأولى باتجاه فلسطين.

هل كان على الرملة أن تتسربل بالسواد أربعين عاما ثم تخلعه لترقص في جنازتك؟

هل كان على مخيم اليرموك ان ينهض حاضنا صورتك بعدما تركته مرغما لتعود الى القاعدة بين الشباب؟

والفيحاء جرح لا يندمل، وها أنت تعود اليها محمولا على أكف مليونين من العرب.

ينزلق عليها نعشك من أول الزمن العربي حتى مقابر الشهداء. هي اللوعة وهي الغياب وهي المثوى الأخير، وما زال مثواك مشرعا في اللد أو في غزة ليكون ما بعد الأخير.

***

قم يا خليل شبلا يشب على النار والبارود

قم يا خليل زهرة تتضوع على ربى حطين

قم يا من حملت الحجر في كفيك هذي السنين

افحمتنا بصمتك، وأخرستنا بعملك، وأخجلتنا بتواضعك، وأسعدتنا ببساطتك، وطهرتنا بنقائك، وفجعتنا برحيلك وعندما علا ضجيج خلافنا كنت تدخل حاملا فلسطين على منكبيك فنخجل منك ومن فلسطين ومن أنفسنا. لم نرك غاضبا أبدا، لم نرك متوترا أبدا، حتى والقصف فوق رؤوسنا كمطر الشتاء، كنت على الجهاز غاية في الهدوء، غاية في التماسك: أمطروا «الأشقاء» بكل ما لديكم..!؟

فلماذا جعلتنا نتعلق بك الى هذا الحد؟

***

كنت القائد والمنسق والمشارك: نذكرك ونحن نحمل التعب والارهاق في عظامنا. كانت ابتسامتك المشجعة وجملتك البسيطة «يعطيكو العافية يا شباب»، فتدب فينا الحياة والحيوية من جديد. لم ننم منذ يوم وليلة وكرمال عيونك أخ أبو جهاد يوم آخر وليلة أخرى...

نذكرك وأنت تترك مقعدك في الصف الأول لرئيس وفد جمهورية الصين وتعود الى الصفوف الخلفية، لكن وكما قال نابليون عندما جلس في آخر صف في قاعة الموسيقى فالصف الذي أنت فيه هو الصف الأول دائما.

تنادي، تحاور، تنظم، تشارك، تستقبل الضيوف، تستفسر عن أدق التفاصيل، تتحسس نبضنا المنهك حتى النخاع. عندك متسع من الوقت لكل شيء، لا نعلم كيف تأتي به، فمتى نتعلم من قدرتك على الاستماع؟

***

ها هم الأشبال الذين خرجتهم متاريس على أبواب المخيم صيدا ترمي زهر برتقالها للقياك وصور تنقش صورتك على أعمدة المعبد الروماني وتشهد أنك أول من وصل وآخر من رحل. نعرف ماذا كانت وصيتك الأخيرة وأنت تتمتم بها قبل الشهادة. فلسطين كلمة منقوشة على شفتيك وفي سويداء القلب وفي بؤبؤ العين.

فلسطين العذاب والغربة، لكنها النار والبراكين

فلسطين المنافي والقسوة، لكنها الأمل والمستقبل

فلسطين الغائبة عن الأطلس، لكنها الحاضرة في الحلم والوجدان

أليست الثورة حلما ينمو في رحم المستحيل؟