الأسرى الفلسطينيون كانوا بحاجة إلى حرب، فلا يوجد شعب في الدنيا يرى الآلاف من أبنائه وبناته يقتلون ويعذبون ويهانون وتدمر حياتهم في السجون والمعسكرات ومسالخ التحقيق والتوقيف ويبقى صامتاً، ولا يقبل أي شعب حر على وجه هذه الأرض أن يعود أسراه من السجون جثثاً بعد أن مزقهم زمن السجن الثقيل وأطبق الموت عليهم حتى الفناء.
الأسرى الفلسطينيون كانوا بحاجة إلى حرب، لأن السجون تحولت إلى مكان للإبادة الإنسانية، وكان لابد أن تغلق أقسام جهنم، ويخرج المعذبون من حطامهم وأمراضهم ويستعيدوا ولو قليلاً أعمارهم المهدورة، وكان على حبل المشنقة الذي يسمى المؤبد أن يسقط، وتتحرر الرقاب من الشنق والخنق والذبح والانسحاق، قال تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض.
رأيت في اتفاق وقف إطلاق النار يوم 19/1/2025 بوقف المجازر الدموية في قطاع غزة وتحرير آلاف الأسرى من ذوي الأحكام العالية والمرضى والنساء والأطفال انتصاراً للحضور على الغياب، ورأيت الفرح الفلسطيني يبزغ من وسط الأزمات والرماد والكوابيس، فلا يندهش أحد من الفرح الاستثنائي وسط كل هذا الألم، فرح الضحية التي أعلنت انتصارها على القاتل والجلاد، إنها قيمة الحرية الخارجة عن حسابات موازين القوى، ولولا هذه القيمة لما بقي الشعب الفلسطيني صامدًا على أرضه متمسكًا بحقوقه منذ النكبة حتى الآن.
دعوا أم الأسير تغني وتفرح، دعوها تجلس فوق بيتها المدمر في غزة وتزرع وردة بين الركام، دعوها ترى الأمل في اليوم التالي، تعانق ابنها وتسند قلبها الصابر حتى لا ينهار، هكذا نحن الشعب الفلسطيني، هذا ما يميزنا عن غيرنا، يبزغ البديل من وسط الخراب، نسمع أغنية وسط عاصفة الموت والمجزرة ، فلماذا تغضب الثقافة الجديدة البائسة عندما أزور نفسي الشهيدة وأقرأ على روحي السلام.
يرونها بعيدة ونراها قريبة وإنا لصادقون، وإني أرى النور في نهاية النفق، هذه كلمات الشهيد الرمز الرئيس أبو عمار، قالها في أحلك الظروف الذي مر بها الشعب الفلسطيني، هذه الكلمات تحولت إلى ثقافة وصمود ونشيد وأفكار وانتفاضات ومرجعيات روحية لشعب الجبارين، فإما أن نكون أو لا نكون، فلا خيار لنا سوى بلوغ ذلك البصيص من الأمل في نهاية هذا النفق المظلم.
الشهداء حرروا الأحياء، وحرروا أنفسهم من مقابر الأرقام والثلاجات الباردة، نهضوا من تحت أكوام الأنقاض، حرروا اللحم والعظام والصوت من الإخفاء والنسيان، ولعل أكثر من 95% من صفقات التبادل وتحرير الأسرى جاءت بعد حروب ومعارك وتضحيات، فالحرية تنتزع انتزاعاً من براثن الاحتلال، فلا تقاس حرية أي شعب بالأرقام، وكان الشهيد الأسير المفكر وليد دقة قد قال يوماً: حرروا الشهداء الأسرى وحرروا الأسرى الشهداء، حرر نفسك بنفسك، ولم يسمح لهم أن يكتبوا السطر الأخير قبل استشهاده، فعاد الشهداء والأسرى إلى رام الله وهذا ما يجب أن يكون.
نحن أكثر الشعوب الذي اجترحت قرارات دولية تساند حقوقنا العادلة والمشروعة، ولكن هذه القرارات بقيت عاجزة وقاصرة على إزاحة الاحتلال من حياتنا وأرضنا وحماية أسرانا، وإلى حين يستيقظ القانون الدولي ويكون له مخالب علينا أن نكون أقوياء، نستعيد قوانا حبة حبة وننهض خطوة بخطوة، نستعيد صرخة ذلك الشهيد وذلك الأسير، ولنختار الموت العالي إذا كان لابد من الموت، ذلك الموت الذي يأخذنا في الشعاع النوراني روحاً وذاكرة.
أصيبت دولة الاحتلال بالجنون وبالهوس، يلاحقون عائلات الأسرى ويمنعون الاحتفالات والاستقبالات، أغلقوا الضفة الغربية والقدس بالبوابات والحواجز، سور حديدي يشبه أسوار السجون، ويبدو أنه كلما ابتسمت الضحية غضبت تل أبيب ومتطرفيها ومستوطنيها، وهناك على حاجز عطارة في رام الله أوقفت جندية صهيونية محمود درويش وسألته: ألم أقتلك؟ قال لها: قتلتني ونسيت مثلك أن أموت
لنقاتل بالفرح، ونرفع شعار الانتصار، لنضمد جروحنا ونتوحد موتاً وحياة، الأحياء عادوا بعد سنوات طويلات، عادوا ليبنوا البيت ويدفنوا الشهداء، فلنستقبل محمد الطوس ونائل البرغوثي وآلاف الأسرى الخارجين من تحت الأرض، ونرفع الرايات، ونكتب لمروان البرغوثي وأحمد سعدات أن أرضكم دافئة والسماء.
عندما زرت الاسيرة القائدة خالدة جرار قالت: إنها منذ 150 يوماً لم تر أحدًا تكلمه، لقد قبعت في زنزانة انفرادية ضيقة ومخنوقة، وعندما أفرج عنها ورأت الناس بدأ صوتها يستعيد إيقاعه وسخونته في ليل رام الله البارد والمحاصر بالدبابات.
وعندما زرت مزيونة والدة الأسير ناصر أبو سرور الذي يقبع منذ 32 عاماً في السجون قالت لي: الآن شفيت من الجلطة الدماغية التي أصابتني، وسأظل قوية حافظة لوصية ابني ناصر الذي قال لي: أمي أرجوك لا تموتي قبلي، الأسير المشلول منصور موقدة المحكوم بالسجن المؤبد صنع سيارة داخل السجن، فعندما كان يخرج إلى الساحة على عجلته المتحركة كان الأسرى المصابين والجرحى الذين صادرت إدارة السجون عكازاتهم يستقلون عربته ويتحركون في الساحة وهو يدور بهم عكس عقارب زمن السجن، فالجرح يداوي الجرح، والساق الخشبية لن تنسى الساق البشرية وهي تسير إلى البيت.
جرحنا أحق بالكلام من ضآلة لغتنا السياسية التي بقيت بعيدة عن ما جرى وما يجري، يبدو أننا نفتقد إلى ثقافة المعاني، فصورة البطل فينا تفوقت على صورة النصوص المخيبة، صحيح أن الصهيوني يحمل مدفعًا وصاروخًا وقنبلة لكنه لا يمتلك الإرادة، على عكس الفلسطيني الذي لا يحمل صاروخًا ولكنه يمتلك الإرادة.
الأسرى كانوا بحاجة إلى حرب، ومن لم يدخل السجن لا يعرف معنى الحرية، متمنياً أن ترتقي لغة الكتابة بعد الحرب على غزة إلى لغة الشهداء، وأن تكون لغة قادرة على رؤية هؤلاء البشر الذين يقبعون خلف القضبان، ما هذه التحليلات القاتمة والغامضة والمهلكة؟ فالطريق إلى الحرية لا تحتاج إلى كل هذا الجدل، الطريق واضح فإما أن تموت طبيعياً بإرادة إلهية، وإما أن تموت شهيداً في معركة تحرر وطني، لا وسطية في الموقف، غير مسموح أن يعبث أي أحد بكل هذا الموت الشريف، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها