في زمنٍ تداخلت فيه الأسطورة مع الواقع، واستحكمت الخرافة على العقول، يطلّ الأديب الفلسطينيّ جميل السّلحوت بروايته “حمروش”التي صدرت عن دار الهدى عبد زحالقة في كفر قرع، وتقع في 60 صفحة من القطع المتوسّط، ليقدّم عملًا أدبيًا موجّهًا للفتيات والفتيان، يحمل في طياته نقدًا اجتماعيًا عميقًا لهيمنة الجهل والخرافات على المجتمعات.

الرواية ليست مجرد حكاية للأطفال أو للناشئة، بل هي عمل أدبي يُدين زمنًا كانت فيه الخرافة سيّدة الموقف، وكان العقل مغيبًا، حيث تتغلغل في المجتمع موروثات واعتقادات تسيطر على السّلوكيات وتعيق التّفكير النّقدي.

تدور أحداث الرواية في إحدى القرى الفلسطينية التي تخضع لأوهام وخرافات حول مغارة يُقال إنها مسكونة بالأرواح الشريرة، ويُعتقد أن فيها قبرًا لرجل صالح يُدعى حمروش. تتجلّى هذه الأسطورة في حياة سكان القرية، حيث يتحاشى الناس الاقتراب من المغارة، خصوصًا في الليل، خوفا من غضب حمروش والأرواح المزعومة. وسط هذا الجوّ المشحون بالخوف، يظهر الطفل سعيد، وهو شخصية محورية تعكس وعي الجيل الجديد ورفضه لتلك المعتقدات، حيث يسخر سعيد من هذه الخرافات بفطرته البريئة ويمتلك شجاعة التّشكيك في الموروث.

يزداد التّشويق في الرّواية مع وصول النّوري وزوجته صبريّة إلى القرية، وهما غريبان يختاران السّكن في المغارة دون علم بما يدور حولها من قصص. هذا الحدث يكشف عن مدى تغلغل الخرافة في حياة الناس، ويضيف تعقيدا دراميّا حيث تبدأ الشّخصيات في التّعامل مع وجود الغرباء في المكان الذي كان مصدرا للرّعب.

النّوري وزوجته يمثلّان جانبًا آخر من الجهل، حيث يمارسان أعمالًا مستندة إلى الخرافة مثل قراءة الطّالع والتّداوي بطرق بدائية، ممّا يُبرز استغلال هذه المعتقدات لتحقيق مكاسب شخصية.

تصل الرّواية إلى ذروتها مع وقوع زلزال يهدم قبر حمروش، ليكشف عن جمجمة حمار مدفونة هناك، في مشهد صادم يكشف زيف الأسطورة التي سيطرت على عقول السكان.

هذه النّهاية الرمزية تحمل رسالة قوية تدعو إلى التّحرر من قيود الجهل والخرافات، وتُظهر أن الموروثات التي لا تستند إلى عقل أو منطق ما هي إلا أوهام تُعيق التّقدم.

الرّواية تحمل رسائل تربوية عميقة، حيث تسلط الضوء على أهمية التفكير النقدي ودور العلم في مواجهة الجهل.

كما أنّ شخوص الرّواية ورموزها  مرسومة بعناية، إذ أحسن الكاتب توظيفها لإيصال رسالته التّوعوية التّعليمية.

الطّفل سعيد يمثّل الأمل في جيل جديد قادر على تحدّي الموروثات والتّساؤل حول صحتها، في حين أن الزّلزال الذي يكشف الحقيقة يعكس اللحظة التي يُجبر فيها المجتمع على مواجهة زيف معتقداته.

وهنا تعكس الرّواية صراعا بين الأجيال: الكبار يصدّقون الخرافات وينقلونها، والصّغار يشكّكون فيها ويهزؤون منها. هذه العلاقة تمثّل التّحوّل التدريجي من الجمود العقلي إلى التفكير النّقدي عبر الأجيال.

أمّا المغارة، فتمثّل محور الخرافات، إذ تشكّل رمزا للجهل المستتر في زوايا المجتمعات. كلّما اقترب النّاس من فكّ غموضها، يظهر خوفهم من مواجهة الحقيقة.

كذلك، يُبرز الكاتب كيف كانت المرأة ضحية للجهل، كما يظهر في مشهد صبريّة وهي تبصق في أفواه النّساء لعلاجهن من العقم، ممّا يعكس حاجة النّساء إلى التّمكين الفكري لتحرير أنفسهنّ من هذه الممارسات.

تميزت الرّواية بأسلوبها البسيط والمناسب للفئة المستهدفة، لكنها في الوقت ذاته حملت أبعادا رمزيّة عميقة تجعلها تتجاوز كونها مجرد قصة للفتيات والفتيان. إذ تمّ بناء الأحداث بحبكة متماسكة، وجاءت النّهاية صادمة لتُحدث الأثر المرجو في نفوس القراء. وعلى الرغم من ذلك، بقيت بعض الشّخصيات مثل النوري وزوجته سطحيّة إلى حد ما، إذ لم يتعمّق الكاتب في أبعادهما النّفسية، بل اكتفى بتقديمهما كرمز للاستغلال المبني على الجهل.

في النهاية، تُعد رواية “حمروش” عملًا أدبيّا مميّزا يُدين الخرافة ويدعو إلى تحرير العقول من قيود الموروثات البالية. إنها ليست مجرد قصة عن الماضي، بل هي مرآة تعكس الواقع في بعض جوانبه، ودعوة للتغيير وبناء مستقبل يعتمد على العلم والعقل.

بأسلوب بسيط ورسائل عميقة، يقدم جميل السلحوت صرخة أدبية ضد الظلام الفكري، ونداء للتّفكير الحرّ والتّحرر من قيود الجهل.