الشعارات والمزايدات ليست بنت الحرب الحالية، بل هي لازمت القضية الفلسطينية، منذ نشأتها الأولى، منذ صدر إعلان بلفور الشهير عام 1917، وبدا المشروع الصهيوني يأخذ طريقه للتنفيذ بدعم الإمبراطورية البريطانية، والدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، لأن عصبة الأمم، التي أسستها هذه الدول،  التي تبنت آنذاك بلفور عبر صك الانتداب، وبالتالي ربطت الانتداب البريطاني بشرط تنفيذ الوعد. في تلك المرحلة وحتى نكبة العام 1948، كانت المزايدات تدور بين زعماء العائلات الفلسطينية، فلم يكن هناك أحزاب أو فصائل حقيقية، وكان التنافس العائلي غالبًا ما يفرض استخدام الشعارات الطنانة والمزايدات بهدف كسب الجمهور وتعزيز مكانة العائلة.

بعد النكبة، وقبل انطلاقة حركة "فتح" وظهور فصائل الثورة الفلسطينية، انتقل مرض المزايدات والشعارات إلى الاحزاب القومية المتنافسة، حزب البعث، حركة القوميين العرب، والناصريين، نسبة للرئيس المصري جمال عبد الناصر. لقد تبنت هذه الاحزاب شعارات القضاء على إسرائيل بقوة السلاح. وتحرير فلسطين، وطرحت شعار "الوحدة طريق التحرير" أي تحقيق الوحدة العربية ومن ثم تحرير فلسطين. مزايدات الأحزاب والأنظمة "القومية" قادتنا لهزيمة حزيران 1967 المدوية، بعد أن نامت المجتمعات العربية على حرير، وعلى ثقة كاذبة، فكانت هزيمة بحرب لم تستغرق سوى ستة أيام.

نعود للساحة الفلسطينية بعد انطلاقة "فتح"، أول حركة، أو تنظيم وطني فلسطيني بمنطلقات وطنية فلسطينية بحته، وبعد انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 وتأسيس فصائل المقاومة، كانت المزايدات جزءًا مهمًا من السياسة الداخلية الفلسطينية، وانتقلت إليها أساسًا من ذات الأحزاب القومية، والتي فرخت فصائل فلسطينية، فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هي امتداد لحركة القوميين العرب، والصاعقة امتداد لحزب البعث الحاكم في سورية، وجبهة التحرير العربية فرع حزب البعث العراقي، والجبهة الشعبية القيادة العامة كانت مدعومة من سوريا ومعمر القذافي في ليبيا، فالمزيدات في الساحة الفلسطينية كانت عمليًا امتداد لمزايدات الأنظمة العربية فيما بينها.

لقد كلفت الشعارات الرنانة، والمزايدات الفارغة الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني تضحيات هائلة وخسائر سياسية ومادية، أحداث أيلول المؤسفة عام 1970 في الأردن، وخلال الحرب الأهلية في لبنان.

كل من أراد استخدام القضية الفلسطينية لجأ إلى المزايدات والشعارات الكلية، لأن أصحاب هذه المزايدات باختصار لا يخسرون شيئًا، فالشعب الفلسطيني وقضيته وحدهما الخاسر، وباستثناء مراحل محدودة وفي ظروف معينة كانت الساحة الفلسطينية تشهد توافقًا، وتنتصر العقلانية والموضوعية على شحن العواطف والغرائز. والملاحظ أن الأنظمة العربية وعندما كانت تمر علاقاتها بهدن وتجنح نحو الاتفاق والتعاون، كانت المزايدات في الساحة الفلسطينية تتراجع، وتميل الكفة لمصلحة الحوار الهادئ والمواقف الواقعية.

وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، اتفاق إعلان المبادئ والاتفاقيات المرحلية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان للمزايدات أثرها السلبي لجر الشعب تدريجيًا إلى واقع النكبة الحالية، صحيح أن اليمين المتطرف الإسرائيلي كان العنصر الأبرز في تدمير السلام، فهذا اليمين اغتال رابين، واغتال أوسلو معه، ولكن في الجانب الفلسطيني والعربي، أحزاب وفصائل وأنظمة، قدمت عبر المزايدات خدمة لهذا اليمين الإسرائيلي لينفذ أجندته الشيطانية. وخلال الحرب الحالية ماذا قدم الطبالون والزمارون للشعب الفلسطيني في قطاع غزة وفي الضفة، لم يقدموا سوى تشويه للوعي والتضليل، واللعب على العواطف والغرائز، حتى أن قسمًا كبيرًا من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لم تدرك، بسبب هذا التضليل أن نكبة قد حصلت للشعب الفلسطيني والأمة العربية.

ولكي نضع النقاط على حروف العقود الأخيرة، والحرب الحالية، فإن المزايدات والتضليل كان عملاً ممنهجًا، شاركت بها وسائل إعلام ضخمة، وقوى ونخب مأجورة، ومراكز بحث ودراسات، وأجهزة ومؤسسات لا نعلم من هو  محركها الرئيسي. في المراحل السابقة، كانت المزايدات والشعارات تعبيرًا عن عمل ساذج غير واعٍ، إنما هي اليوم عمل مدروس ويملك كامل الأدوات والإمكانيات، والهدف أن لا يستخدم المواطن الفلسطيني والعربي عقله بشكلٍ حر مستقل، إنما يكون مرتهنًا لتلك الأدوات والماكينات بكل ما لها من أشكال وتفرعات.

لنسأل أنفسنا وفي كل العهود، ما الذي حققته المزايدات والشعارات الرنانة للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية؟ هل حررت شبرًا من فلسطين أم أنها كانت تمنح إسرائيل مبرر التوسع، وتمنح هذا اليمين المتطرف المبررات والوقت لإرتكاب الجرائم وتنفيذ أهدافه التوسعية؟.