وصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الثلاثاء الماضي، إلى إسرائيل في زيارته الـ11 إلى الشرق الأوسط منذ حوالي السنة. واجتمع فور وصوله برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لمدة ساعتين ونصف الساعة. ومن المؤكّد والواضح أنّهما بحثا "حروب إسرائيل" على غزة ولبنان. ولم يُنشر بيان مشترك بعد اللقاء، وأصدر كل منهما بيانًا خاصًا به. وقد اختلف البيانان نصًّا وروحًا، ففي حين أكّد أحدهما قضايا معينة، ذهب البيان الآخر إلى التشديد على غيرها، ما عكس تباين الأجندات وغطّى على اختلاف المواقف في بعض التفاصيل المهمة.
وتأتي زيارة بلينكن بادعاء المسعى الدبلوماسي الأميركي لخفض التصعيد ووقف الحروب، ومع أنه من الغباء المراهنة على هذا المسعى، إلا أن الإدارة الأميركية تتوهم بأن هناك حراكًا سياسيًا أميركيًا لوقف النزيف في غزة ولبنان.
الغرض الأهم لزيارة وزير الخارجية الأميركي لإسرائيل عشية الانتخابات الرئاسية يتعلّق بالانتخابات، خاصة أن حالة التعادل تمنح قيمة مضاعفة لكل صوت. وقد أراد بلينكن التأكّد من ألا تصعد إسرائيل خارج إطار التفاهمات مع الولايات المتحدة، وألا تتسبب في "كوارث" تضرب حملة كامالا هاريس الانتخابية. وابتغى أيضًا إبراز محاولات الإدارة الديمقراطية التوصل إلى صفقة تبادل ووقف لإطلاق النار في غزة، مشيرًا إلى أن إدارته «تدرس مقترحات جديدة لإنهاء الحرب»، وتعمل على التوصل إلى حل دبلوماسي في لبنان، إضافة إلى الادعاء بالضغط على إسرائيل لتخفيف ضرباتها على بيروت.

ولخص مئير بن شابات الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، ومن أهم مستشاري نتنياهو غير الرسميين، زيارة بلينكن في مقال له في صحيفة «يسرائيل هيوم» أمس الأربعاء بالقول: «بعد زيارة بلينكن، احتمال حدوث تغيير في السياسة منخفض، وسيستمر النشاط العسكري في تشكيل وصياغة الواقع». ووصف الزيارة بأنّها «المحاولة الأخيرة للإدارة في واشنطن للتوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار قبل الانتخابات الأميركية»، مضيفًا: أن هذا شبه مستحيل. والخلاف الفعلي بين نتنياهو وبايدن هو أن الأول يتبنى استراتيجية «اليمين الأمني الإسرائيلي» المبنية على أن العمل العسكري هو الذي يحسم ويقرر البدايات والنهايات، مقابل الرأي الأميركي القائل، إنه يجب البناء على «المنجزات العسكرية» للتوصل إلى حلول سياسية. هناك فرق آخر في التوجهات ويتمثل في المسكوت عنه في لقاء بلينكن ـ نتنياهو هو أن كلاهما يفكّر في الانتخابات الأميركية، فالأول يريد فوز كامالا هاريس، وجاء لفعل ما قد يساعدها في تحقيق النصر، والثاني يتوق إلى فوز دونالد ترامب الجمهوري، ويرى مصلحته بعدم توفير ما قد يساند منافسته الديمقراطية. كلاهما يعرفان أن ما يحدث في الشرق الأوسط يؤثر على أقل من عُشر واحد في المئة من المصوّتين، لكن هذا، وفي ضوء التعادل غير المسبوق، ربما قد يساهم في حسم الانتخابات في الولايات المتأرجحة، وبالتالي الانتخابات بأسرها.

- بين بيانين

كثيرًا ما يجري التعامل مع البيانات الرسمية، التي تصدر بعد لقاءات مسؤولين من دولتين، على أنها مملة ولا تفيد بمعلومات جديدة. ولو تمعّنا بياني نتنياهو وبلينكن بعد لقائهما، كلاً على حدة لوجدناهما في غاية الجفاف وانعدام الإفادة بجديد. لكن المقارنة بينهما تكشف الكثير حول الأجندات المختلفة بين واشنطن وتل أبيب. جاء في بيان مكتب نتنياهو، كما نشر موقعه الرسمي: «طرح في اللقاء موضوع التهديد الإيراني وضرورة توحيد القوى بين الدولتين لمواجهته. رئيس الوزراء شكر الولايات المتحدة على تأييدها ودعمها. وزير الخارجية الأميركي عبّر عن صدمة واستهجان الولايات المتحدة لمحاولة إيران اغتيال رئيس وزراء إسرائيل. رئيس الوزراء قال إنها مسألة ذات أبعاد دراماتيكية ولا يصح السكوت عنها. واستعرض في اللقاء عمليات الجيش الإسرائيلي في لبنان وضرورة إحداث تغيير أمني في الشمال. وتحدث أيضًا عن تقدم القتال في غزة، وعن محاولات إسرائيل الحثيثة لاستعادة المخطوفين». ليس صدفة أن بيان نتنياهو لم يتطرق إلى قضية المساعدات الإنسانية، التي تلوّح الإدارة الأميركية بها وتشغل الإعلام بها. وغاب عنه أيضًا أي ذكر لحل دبلوماسي في لبنان، أو صفقة تبادل وهدنة في غزة. في المقابل جرى التأكيد على العمليات الحربية في غزة ولبنان، وعلى محاولة اغتيال نتنياهو. التي ليس واضحًا بعد سبب التشديد عليها.

أما بيان الخارجية الأميركية، وفق ما نشره موقعها، فقد نص على: «وزير الخارجية أنتوني بلينكن أكد على ضرورة أن تقوم إسرائيل بخطوات إضافية لضمان وصول المعونات الإنسانية للمدنيين في غزة. وبحث الوزير الجهود المتواصلة للتوصل إلى حل على طول الخط الأزرق وتنفيذ القرار 1701 بالكامل، وضمان عودة النازحين على طرفي الحدود إلى بيوتهم».
لقد تجاهل البيان الأميركي مسألة اتهام إيران بالضلوع في اغتيال نتنياهو، لأن الإدارة الأميركية لا تصدق هذه الرواية، ولأنها لا تريد المشاركة في التسخين، وإذ أكد بيان بلينكن على إيصال المساعدات الإنسانية، غاب عنه التهديد الذي أطلقه هو ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، بفرض حظر أسلحة على إسرائيل إن هي واصلت منعها لوصول الإغاثة إلى شمالي قطاع غزة. وبما أنه يجري في العادة التفاهم بين الطرفين حول مضمون البيانين المنفصلين، يبدو أن الطرف الأميركي وافق على غياب قضية الإغاثة عن البيان الإسرائيلي.
ومن يتابع نتنياهو يعرف أن ما يصرح به في العلن أهم بكثير مما يقوله في الغرف المغلقة، وعليه فإن السطر الأخير في بيان نتنياهو هو موقفه الحقيقي وهو، أن لا حلول ولا حل في الأفق وكل ما لديه هو المزيد من العمليات العسكرية. لا مشكلة عند نتنياهو أن يكذب في اللقاءات المغلقة، فوفق ما نشره، سأله بلينكن هل تقوم إسرائيل بتنفيذ خطة الجنرالات (المعروفة أيضًا بخطة الجنرال غيورا آيلاند، الذي تخلى عنها لاحقًا، وصار بعد اغتيال السنوار يدعو لوقف الحرب في غزة)، فرد عليه بأن حكومته لم تتبنها والجيش لا يعمل بموجبها، ولكنه لم يستجب لطلب بلينكن بالإعلان عن ذلك على الملأ، وهذا بحد ذاته دليل على العمل وفقها وعلى أن نتنياهو يكذب. ويبدو أن بلينكن فشل في تبريد حمّى التصعيد الإسرائيلي، ولم يفلح في إقناع نتنياهو بشأن صفقة التبادل والهدنة في غزة، ولا بخصوص الحل الدبلوماسي في لبنان. ويبدو في المقابل أن تأثير ترامب على السياسة الإسرائيلية في تزايد، وبعد أن أثنى المرشّح الجمهوري على نتنياهو لعدم امتثاله لنصائح ومطالب بايدن وهاريس، زاد حرص إسرائيل على عدم تقديم أي مكسب للإدارة الديمقراطية مهما كان ضئيلاً. أمّا الاعتقاد بأن مواصلة الحرب ستتأثّر بالانتخابات الرئاسية الأميركية، فهو بحاجة لتوضيح: نتنياهو سيواصل استراتيجية الحرب وسيلائم تكتيكها مع المتغيرات في البيت الأبيض. لا معنى لانتظار الفرج من واشنطن، ودول المنطقة العربية والإسلامية هي التي يجب أن نتوقّع منها الفعل الذي ينقذ غزة ولبنان من المذابح ومن الدمار. هي المسؤولة ولديها القدرة، فلا تتركوها تهرب من المسؤولية.