بقلم: إسراء غوراني
وجد أهالي تجمع "أم الجمال" في الأغوار الشمالية أنفسهم أمام مصير محتوم، طالما حاولوا تجنبه بشتى الطرق على مدار سنوات، حيث أجبرت آخر 14 عائلة في التجمع، على الرحيل قسرًا تحت تهديد وإرهاب المستعمرين، نهاية الأسبوع الماضي.
ورغم أن سكان التجمع يعانون منذ سنوات، كغيرهم من سكان الأغوار، من سلسلة إجراءات تتخذها سلطات الاحتلال لترحيلهم، تتمثل في محاربتهم في مصدر رزقهم وسبل بقائهم، من خلال إغلاق المراعي، والحرمان من مصادر المياه، ومنع البناء، لكن في الأسبوعين الأخيرين شهد التجمع التطورات الأخطر والتي تجاوزت حدود المحاربة في مصادر الرزق إلى المخاطر على الحياة، بعد تصاعد عنف المستعمرين، منذ قيامهم بإنشاء نواة لبؤرة استعمارية رعوية على أراضي التجمع، وشروعهم باعتداءات على مدار الساعة على المواطنين وممتلكاتهم.
يروي أبو حمد، وهو أحد سكان التجمع، أنه اضطر مع عائلته، يوم الجمعة الماضي، إلى تفكيك خيامه وحظائر ماشيته، والرحيل قسرًا لمسافة تبعد بضعة كيلو مترات عن تجمعهم، والاستقرار قرب قرية تياسير إلى الشرق من طوباس.
ويقول: إن "الاحتلال على مدار سنوات وخاصة خلال العقد الأخير لم يترك وسيلة إلا واتبعها لتهجيرهم من أراضيهم، لكنهم كانوا يكابدون الأمرين للبقاء فيها، إلا أنهم خلال الأشهر الأخيرة باتوا يواجهون مخاطر لا تحتمل على حياة وسلامة عائلاتهم، بسبب إرهاب المستعمرين المتصاعد، والذي وصل إلى ذروته خلال الشهر الجاري مع إقامة نواة لبؤرة استعمارية رعوية"، مؤكدًا أنه لم يشهد سابقًا عنفًا أخطر مما شهده في الآونة الأخيرة، مشيرًا إلى أن المستعمرين كانوا ينفذون اعتداءاتهم تحت أعين جيش الاحتلال الذي يتدخل دائمًا لصالحهم، وهو ما جعل المواطنين يعيشون أوقاتًا عصيبة لم يعرفوا فيها الراحة أو النوم خوفا من كارثة محتملة في أية لحظة.
ويبدي أبو حمد أسفه الشديد على رحيله قسرًا عن مكان سكنه الذي أمضى فيه جزءًا كبيرًا من حياته، وهو في الوقت ذاته يبدي تخوفاته من استحالة العودة مستقبلاً، فإقامة بؤرة استعمارية في هذا المكان يعني الاستيلاء عليه ليكون امتدادًا للمستعمرات، ومن أقربها على تجمع أم الجمال مستعمرة "مسكيوت".
كما يشير إلى أنه الآن يفتقد الأمان أينما حل أو ارتحل، فالمستعمرون يأخذون على عاتقهم اليوم مطاردة الفلسطينيين أينما وجدوا في مناطق الأغوار.
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" قد وثق في أحدث التقارير الصادرة عنه مطلع الشهر الجاري: "منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، هُجّرت نحو 255 أسرة فلسطينية تضم 1,500 فردًا، من بينهم 720 طفلاً، وسط عنف المستوطنين والقيود المفروضة على الوصول".
كما وثقت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان تهجير 27 تجمعًا سكانيًا بالضفة الغربية منذ بداية العدوان على غزة في شهر تشرين الأول 2023 وحتى الآن، تحت تهديد السلاح وبسبب عنف المستعمرين.
كما تشير معطيات الهيئة إلى أن هذا الرقم يشكل أضعافًا مضاعفة عن عدد التجمعات التي تم تهجيرها قبل ذلك، حيث تم تهجير أربعة تجمعات على مدار عامين قبل بدء العدوان على القطاع، وهو ما يؤكد أن المستعمرين يستغلون الظروف الراهنة لتسريع مخططاتهم التهجيرية بحق السكان في المناطق المستهدفة.
وفي هذا السياق، يوضح رئيس مجلس قروي المالح والمضارب البدوية مهدي دراغمة أن تجمع أم الجمال، كغيره من تجمعات الأغوار الشمالية، يعاني منذ سنوات طويلة من مخططات سلطات الاحتلال الرامية إلى تهجير سكانه بالكامل، حيث تعمل منذ احتلالها الأغوار قبل خمسة عقود على خلق بيئة طاردة للسكان، من خلال التضييق على مصادر رزقهم وجعل مقومات بقائهم مستحيلة من جهة، بالإضافة إلى دعم المستعمرين الذين ينفذون اعتداءات متصاعدة من جهة أخرى.
في إطار ذلك عملت سلطات الاحتلال على الاستيلاء على الغالبية العظمى من أراضي الأغوار الشمالية، وإغلاق مساحات واسعة من المراعي، إضافة إلى السيطرة على مصادر المياه، علمًا أن هذه العوامل تشكّل مقومات بقاء التجمعات التي تعتمد أساسًا في رزقها على الثروة الحيوانية.
ويضيف دراغمة: "خلال السنوات الأخيرة صعّدت سلطات الاحتلال من الاستيلاء على ما تبقى من المراعي بذرائع متعددة، ومن أكثر هذه الذرائع استخدامًا خلال الآونة الأخيرة ما يطلق عليه "المحميات الطبيعية" و"أراضي الدولة"، مشيرًا إلى أنها مجرد ذرائع يستخدمها الاحتلال لتسهيل الاستيلاء على الأراضي ومنع المواطنين والرعاة من وصولها من أجل استخدامها لاحقا لصالح التوسع الاستعماري في المنطقة".
ووفقًا لمعطيات مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم" فإن "إسرائيل تمنع الفلسطينيين من استخدام نحو 85% من مساحة الأغوار وشمال البحر الميت وتستغلّ هذه المساحة لاحتياجاتها هي، إنّها تمنعهم من المكوث في تلك الأراضي والبناء فيها ورعي أغنامهم وفلاحة أراضيهم الزراعية، تستند إسرائيل في ممارساتها هذه إلى ذرائع مختلفة".
ومن الذرائع التي تستخدمها إسرائيل منذ عام 1967، وفقا لـ(بتسيلم)، "أراضي الدولة، ومناطق إطلاق النار، والمحميات الطبيعية".
كما تطرق دراغمة إلى واحد من أكثر الأسلحة التي تستخدمها سلطات الاحتلال لمحاربة الوجود الفلسطيني في الأغوار، حيث تستولي منذ عقود على الغالبية العظمى من مصادر المياه فيها، وتمارس سياسة التعطيش على المواطنين في المنطقة لدفعهم للرحيل، وفي المقابل تمنح كميات مضاعفة من المياه للمستعمرين.
وفضلاً عن كون سلطات الاحتلال تسيطر على غالبية مصادر المياه في الأغوار، فهي تطلق يد المستعمرين للسيطرة على ما تبقى منها تحت وطأة التهديد والترهيب، فخلال السنوات القليلة الماضية استولى المستعمرون على ينابيع مياه كانت تشكّل عصب وشريان الحياة للعديد من التجمعات في المنطقة، وآخرها عين الحلوة وعين خلة خضر وغيرها.
وتشير ورقة حقائق صادرة عن مركز عبد الله الحوراني للدراسات التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى أن "منطقة الأغوار الشمالية ضمن الحوض المائي الشرقي الأكبر في فلسطين، ورغم ذلك تسيطر إسرائيل على 85% من مياه الأغوار الشمالية، كما تشير الأرقام إلى أن معدل استهلاك المستعمر القاطن في الأغوار الشمالية يبلغ 8 أضعاف ما يستهلكه المواطن الفلسطيني".
إضافة إلى هذه الإجراءات الرسمية، ارتكزت سلطات الاحتلال على المستعمرين لتسريع تنفيذ المخططات الاستعمارية الكبرى وتهجير التجمعات السكانية، حيث تم منحهم الضوء الأخضر لتنفيذ اعتداءات من خلال المستعمرات المنتشرة في الأغوار، وبالإضافة إلى ذلك انتشرت ظاهرة الاستعمار الرعوي.
ورغم أن بداية ظهور هذا النوع من البؤر الاستعمارية يعود لفترات سابقة، إلا أن الظاهرة نشطت بشكل كبير خلال العقد الأخير، حيث أقيمت العديد من البؤر الاستعمارية الرعوية في مناطق الأغوار والسفوح الشرقية.
وفي هذا السياق، توضح المعطيات لدى هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن 93 بؤرة استعمارية رعوية مقامة بالضفة الغربية بما فيها القدس، من أصل 194 بؤرة لأغراض مختلفة، علمًا أن بداية البؤر الرعوية تعود لبدايات الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أن غالبيتها العظمى أقيمت خلال العقد الأخير خاصة بعد عام 2015.
وفي تقرير سابق لمركز (بتسيلم) حول البؤر الرعوية ودورها، فإن "تأثير البؤر الاستيطانية يتجاوز بكثير مساحة البناء فيها: المستوطنون هناك يبذلون جهودًا كبيرة في منع وصول الرّعاة الفلسطينيين إلى أراضيهم، لأجل ذلك يخرج أولئك في دوريّات ترهيب وهم يعتلون الخيول والتراكتورات الصغيرة مسلّحين بالعصيّ والبنادق ليطردوا رعاة الأغنام الفلسطينيين. وحين ينجح المستوطنون في إبعاد الرّعاة الفلسطينيين عن المراعي الفلسطينيّة يأخذون في جلب قطعان الأغنام والبقر خاصّتهم لترعى هناك، بذلك هم يستغلّون المراعي لاحتياجاتهم ويمنعون الرعاة الفلسطينيين من الوصول إلى المراعي".
ويضيف التقرير: أن "إقامة البؤر الاستيطانية والعنف الذي يمارسه المستعمرون ضدّ السكّان الفلسطينيين كلاهما يجري برعاية الدولة فهو لا يأتي من فراغ. هذه البؤر جزءٌ لا يتجزّأ من سياسة تتّبعها إسرائيل في الأغوار منذ العام 1967 مستخدمة العديد من الوسائل - الرسميّة وغير الرسميّة - بهدف تقليص الوجود الفلسطيني في الأغوار وتعميق السيطرة الإسرائيلية على المنطقة".
بدوره، يؤكد مسؤول ملف الأغوار في محافظة طوباس معتز بشارات أن ما تشهده مناطق السفوح الشرقية للضفة والأغوار مؤخرًا من أعمال تهجير يأتي ضمن مخططات قديمة ومبيتة منذ سنوات طويلة، وتحديدًا منذ عام 1967، لكن سلطات الاحتلال تحاول تسريع تنفيذ هذه المخططات مستغلة الظروف الراهنة المصاحبة للعدوان على قطاع غزة.
ويحذّر بشارات من خطورة الدور الذي يؤديه المستعمرون في مناطق الأغوار خلال الآونة الأخيرة، وخاصة من خلال مجموعات "شبيبة التلال"، حيث يقع على عاتقهم تهجير التجمعات السكانية من مناطق الأغوار والسفوح الشرقية، وذلك بدعم ومباركة من سلطات الاحتلال، منوهًا إلى أن هذه المجموعات تتزايد قوتها في الأغوار وهي تحظى بدعم حكومي متزايد خاصة من الوزيرين في حكومة الاحتلال المتطرفين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير اللذين يشرفان على ذلك، من خلال دعم دور المستعمرين ومنحهم الضوء الأخضر لتنفيذ اعتداءاتهم، بالإضافة إلى زيادة تسليحهم.
وتتعدد أشكال الاعتداءات التي ينفذها المستعمرون في مناطق الأغوار خلال الآونة الأخيرة، وتشمل هذه الاعتداءات: اقتحام المساكن، وترهيب المواطنين، ورشهم بغاز الفلفل، مع استمرار وتصعيد الاعتداءات على الرعاة وملاحقتهم، ومنعهم من دخول المراعي، بالإضافة إلى سرقة مواشيهم، حيث سجلت العديد من حالات سرقة المواشي خلال الأشهر الماضية.
وحول تهجير سكان تجمع أم الجمال، يرى بشارات أن أخطر ما حدث في المنطقة مؤخرًا وشكل مرحلة مفصلية أدت في النهاية إلى التهجير هو إقامة بؤرة استعمارية رعوية على مقربة من مساكن المواطنين، ومن خلالها شرع المستعمرون بتنفيذ اعتداءات متواصلة على مدار الساعة.
ويعد تجمع أم الجمال واحدًا من التجمعات السكانية في الأغوار الشمالية، تمتد أراضيه على مساحة تقدّر بـ 3700 دونم، وفقًا لبشارات، 40% منها زراعية، و60% رعوية، وكانت 72 عائلة تسكن منطقة أم الجمال قبل سنوات طويلة، ولكن بسبب إجراءات الهدم والتنكيل بالمواطنين لم يتبق سوى 14 عائلة، وهذه العائلات واجهت التهجير نهاية الأسبوع الماضي.
وحادثة تهجير سكان تجمع أم الجمال لم تكن الحادثة الوحيدة في الأغوار الشمالية خلال الأشهر الماضية، حيث سبقها تهجير سكان تجمع وادي الفاو وجزء من العائلات في خربة الفارسية في الأغوار الشمالية، فضلاً عن التجمعات البدوية التي هجرت من مناطق شفا الأغوار والسفوح الشرقية للضفة الغربية، حيث بلغت في مجملها حتى الآن 27 تجمعًا خلال عشرة أشهر.
ويحذر بشارات من أن تواجه باقي تجمعات الأغوار المصير نفسه خلال مدة وجيزة قد لا تتجاوز الأشهر المعدودة، فالمستعمرون يواصلون الليل بالنهار لتنفيذ مخططات استعمارية مدعومة من حكومة الاحتلال.
ويقول بشارات: "يمر سكان الأغوار حاليًا بالظرف الأكثر خطورة، والذي يهدد وجودهم في أراضيهم، وهم الآن يحتاجون لتضافر الجهود الرسمية مع جهود فصائل العمل الوطني ولجان المقاومة الشعبية لتعزيز صمودهم وعرقلة مخططات الاحتلال والمستعمرين لترحيلهم، فعلى الفصائل ولجان المقاومة الشعبية التواجد الدائم مع السكان للتصدي لمحاولات ترحيلهم".
ويضيف: "مطلوب من الجهات الرسمية توفير الإمكانيات المادية كافة لتعزيز الصمود، من خلال توفير موازنة خاصة لدعم المواطنين ماديًا في ظل ارتفاع تكلفة البقاء، فهم الآن يحتاجون لتوفير الأعلاف بشكل دائم في ظل تراجع فرص الوصول إلى المراعي ومصادر المياه، إضافة إلى تعويضهم عن الخسائر اليومية والمتلاحقة في الممتلكات بسبب الاعتداءات المتواصلة".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها