ترقد الطفلة سيلا حوسو، على سرير داخل مستشفى "شهداء الأقصى" في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بعين مصابة، وجروح عميقة تشوه ملامح وجهها الطفولي، بينما تملأ رأسها "الدبابيس الجراحية" التي تجمع عظام جمجمة هشمها صاروخ إسرائيلي.
سيلا، البالغة من العمر سبع سنوات، لم تفهم بعد ما الذي حدث، وكل ما تدركه وتشعر به هو أن الألم لا يزال في رأسها، وأن عالمها الصغير قد تغيّر كثيرًا، بعد إصابتها بجروح خطيرة في قصف الاحتلال الإسرائيلي مدرسة "خديجة" التي كانت تؤوي آلاف النازحين غرب دير البلح في السابع والعشرين من يوليو/ تموز الماضي، ما أدى إلى استشهاد ثلاثين مواطنًا، بينهم أطفال ونساء، إضافة إلى إصابة العشرات بجروح خطيرة.
وجدت عائلة سيلا، نفسها مضطرة للنزوح قسرًا في بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث توجهوا إلى دير البلح بحثًا عن ملاذٍ آمن، وأقاموا مؤقتًا لدى أقاربهم هناك، لكنهم اضطروا للنزوح عدة مرات قبل الوصول إلى مدرسة "خديجة".
ولم تكن عائلة سيلا تتوقع أن تكون مدرسة خديجة، التي أصبحت مأوى للعديد من العائلات النازحة، عرضة لاستهداف الاحتلال، لوجود نقطة طبية ميدانية تابعة لمستشفى شهداء الأقصى بداخلها.
بينما كان الجميع يصرخ هاربًا من مدرسة خديجة أثناء وقوع الغارة الإسرائيلية الأولى، كانت سيلا تتحدث عبر الهاتف النقال مع والدها، الذي ما يزال في مدينة غزة.
وأثناء الاتصال فجأة، ملأ صوت الانفجار والصراخ المكان، سقطت سيلا أرضًا، وشعرت وكأن رأسها قد انقسم، والعالم أصبح مظلمًا.
واليوم، تعاني سيلا من كسر في الجمجمة وتمزق في شبكة العين، مما أدى إلى انحراف شديد في النظر وعدم القدرة على التحكم في جفن العين، بالإضافة إلى صعوبة في الرؤية بعينها اليسرى.
وتجلس والدة سيلا بجانب ابنتها، تراقبها بقلق يملأ عينيها، وتتحسس جبينها بلطف بين الحين والآخر، محاولة تهدئة الألم الذي يصعب وصفه بالكلمات.
وتقول الوالدة وهي تقلب صور سيلا قبل إصابتها: "كانت سيلا تلعب وتضحك مع أصدقائها في المدرسة، وترتدي فستانًا جميلاً، وتحمل شهادتها بيدها وتوزع الحلوى على معلماتها وزميلاتها، كانت أيام جميلة".
ثم تضيف الأم بصوت مليء بالأمل: "إن شاء الله، سيعود كل شيء كما كان وأفضل"، وكأنها تحاول أن تواسي نفسها قبل طفلتها.
وتتابع الوالدة وهي تحاول كبح دموعها: "اليوم، كل ما أريده هو أن أراها تضحك مرة أخرى".
سيلا، التي تحمل كل هذا الألم في جسدها الصغير، لا تزال تنتظر أن يتحقق هذا الأمل، أن تعود لتلعب وتضحك كما كانت من قبل.
وتصف الطفلة البريئة لحظة الإصابة، بالقول: "كنت أحاول الابتعاد عن المدرسة المستهدفة مع والدتي وإخوتي، حينها أصبت بشظية وشعرت بألم شديد في الرأس وكاد قلبي يتقطع ألمًا".
وتتلقى سيلا الرعاية الطبية داخل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، لكن الإمكانيات المتوفرة لا تكفي، خاصة وأن المستشفى يعاني من نقص حاد في الأجهزة والمستهلكات الطبية والأدوية.
ورغم كل ما تمر به، لا تزال سيلا تحمل بين طيات قلبها الصغير بقايا أحلام طفولتها التي سلبها الاحتلال الإسرائيلي.
وتحلم الطفلة المصابة بأن تعود للعب واللهو مع أقرانها كبقية أطفال العالم، وأن تكبر لتصبح طبيبة تعالج المرضى وتعيد الأمل للحياة للأطفال.
وتتمنى سيلا أن تتمكن من السفر لتلقي العلاج الذي تحتاجه خارج غزة، لكن الحصار الإسرائيلي المشدد وقلة الموارد والإمكانيات يقفان عائقًا أمام تحقيق هذا الحلم.
وتقول سيلا بصوت ضعيف: "أريد أن أسافر إلى الخارج، أريد أن أرى العالم وأعود لألعب مع أصدقائي، أنا أحبكم كثيرًا، وأريد أن أكون بخير".
وتفتقد سيلا ذات الوجه الذي يفيض ببراءة الطفولة، بعد أن غطته الجروح والغرز الحديدية، والدها المتواجد في مدينة غزة يرعى جدها المسن وعائلته حيث لم يتمكن من النزوح معهم.
ويفصل الاحتلال الإسرائيلي شمال قطاع غزة عن جنوبه بحاجز عسكري، حيث يحول الحاجز دون قدرة والدها على زيارتها والاطمئنان عليها، كباقي العائلات الفلسطينية في قطاع غزة والتي فرقت الحرب شمل أفرادها.
وتتمنى الوالدة الحزينة والمنهكة، انتهاء معاناة سكان قطاع غزة، ووقف الحرب الإسرائيلية المدمرة بعد أكثر من عشرة أشهر.
وبعد سيطرته على معبر رفح وإغلاقه بالكامل في السادس من أيار/مايو الماضي، منع الاحتلال الإسرائيلي سفر خمسة وعشرين ألف مريض وجريح لديهم طلبات سفر وتحويلات للعلاج في الخارج، وقد استشهد منهم ألف طفل ومريض وجريح، بحسب مصادر طبية.
وتشن إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حرب إبادة مدمرة على قطاع غزة خلفت أكثر من مئة واثنان وثلاثين ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على عشرة آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة.
وفي استهانة بالمجتمع الدولي، تواصل دولة الاحتلال حربها متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها فورًا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية ولتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها