بقلم: معن الريماوي

في عدوانه المتواصل على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، استخدم الاحتلال الإسرائيلي مصادر المياه كسلاح لتضييق الخناق على المواطنين، حيث فرضت حصارًا على القطاع، وقطعت المياه، وقصفت الشبكات، ومنعت إدخال الوقود لتشغيل محطات التحلية والآبار، لتنخفض حصة الفرد الواحد من المياه إلى ما بين ثلاثة وخمسة عشر لترًا يوميًا فقط.

وفي الضفة الغربية، لا تختلف الصورة كثيرًا، حيث يتحكم الاحتلال بالنسبة الأكبر لمصادر المياه التي تصل للفلسطينيين، وبالتالي يستغل ذلك أيضًا كسلاح لمحاربة الوجود الفلسطيني على الأرض، واستكمال مشروعه الاستعماري المتمثل في التهجير القسري والاستيلاء على مزيد من الأراضي.

وتعتبر إسرائيل قضية المياه، "أساسية واستراتيجية لمستقبل وجودها"، كما أنها "أساسية واستراتيجية" لمستقبل الدولة الفلسطينية، في الوقت الذي تعتمد فيه القطاعات جميعها على الأمن المائي، وارتباطه المباشر بالأمن الغذائي، كما أن وجود الماء أصل الحياة في أي تجمعات سكانية، وهو ما يسعى الاحتلال لضربه، وفي إجراء يتكرر سنويًا، خفضت شركة "ميكروت" الإسرائيلية، قبل أيام، كميات المياه المخصصة لمحافظتي الخليل وبيت لحم جنوب الضفة الغربية، حيث وصلت نسبة التخفيض من مصدر مياه دير شعر الرئيسي المغذي لهاتين المحافظين إلى ما يقارب 35%، تلاها تخفيض لمناطق امتياز مصلحة مياه رام الله بنسبة تتجاوز 50%، الأمر الذي خلق أزمة كبيرة لدى الكثير من التجمعات خاصة في فصل الصيف، ومع توالي ارتفاع درجات الحرارة، وبات من الصعب تزويدها بالحصص المقررة نتيجة هذا التخفيض. ورغم أن الشركة الإسرائيلية أعادت ضخ نسب المياه تدريجيا، بعد يومين من التوقف، إلا أن وصول المياه إلى المواطنين ما زال متذبذبا.

إجراءات الاحتلال المتمثلة بمنع الفلسطينيين من استغلال مواردهم الطبيعية، خصوصًا المياه، أو حفر آبار جديدة بعد استيلائها على الآبار القديمة، والأراضي التي بنت عليها المستعمرات، وحرمانهم من استخدام مياه نهر الأردن، دفعت الفلسطينيين إلى تعويض النقص بشراء المياه من "ميكروت"، حيث وصلت كمية المياه المشتراة للاستخدام المنزلي 98.8 مليون م3 عام 2022، والتي تشكل ما نسبته 22% من كمية المياه المتاحة التي بلغت 445.7 مليون م3، منها 38.8 مليون م3 مياه متدفقة من الينابيع الفلسطينية، و298.5 مليون م3 مياه يتم ضخها من الآبار الجوفية، و9.6 ملايين م3 مياه شرب محلاة وتشكل 2.2% من المياه المتاحة، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

وقال رئيس سلطة المياه مازن غنيم: إن تخفيض نسبة المياه من قبل "ميكروت" هو موضوع سياسي، لعدة أسباب، أهمها: أن لا يكون حياة للتجمعات الفلسطينية، وللمناطق الأخرى التي لها علاقة بالزراعة، والمشاريع الاستراتيجية، خاصة القريبة من المستعمرات في المناطق المسماة "ج"، بهدف تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم لصالح التوسع الاستعماري، بالتالي فإن إسرائيل تستخدم المياه كأداة ابتزاز للفلسطينيين، مشيرًا إلى أن الشركة الإسرائيلية تتذرع سنويًا بأن "المشكلة فنية"، حيث استمرت أزمة المياه عدة أشهر العام الماضي، خاصة في جنوب الضفة الغربية، ولكن في الحقيقة فإن "ميكروت" تعطي الأولوية للمستعمرين والمستعمرات غير القانونية على حساب المواطن الفلسطيني والمدن والبلدات الفلسطينية، مؤكدًا أن نسبة تخفيض المياه لجنوب الضفة، وصلت لأربعين بالمئة في نقطة واحدة، والتي تعد الأهم بالنسبة لمزودي هذه المناطق، حيث نتحدث اليوم عن 20 ألف متر مكعب يوميًا تصل لهذه النقطة، من أصل 32 ألف. 

وحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، فإن معدل استهلاك الفرد الفلسطيني 85.7 لترَا في اليوم من المياه، 86.4 لترًا في اليوم للفرد في الضفة الغربية، و84.6 لترًا في قطاع غزة (انخفضت إلى أقل من 15 لترا بعد العدوان)، لتكون أقل من الحد الأدنى الموصى به عالميًا والذي يقدر بـ100 لتر في اليوم حسب معايير منظمة الصحة العالمية، في حين يقدر استهلاك الإسرائيلي 6 أضعاف الفلسطيني.

وكانت بلدية الخليل قد ناشدت المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان قبل أيام، ضرورة التدخل العاجل لحل أزمة المياه في جنوب الضفة الغربية، محذّرة من تفاقم أزمة المياه في هذا التوقيت الذي من شأنه مضاعفة معاناة المواطنين وحرمانهم من أبسط حقوقهم بالحصول على المياه التي لا ترتقي كمياتها في الوضع الطبيعي إلى المستوى المطلوب لحصة الفرد.

وأكدت البلدية أن الهدف الرئيسي من تخفيض كميات المياه هو زيادة حصة المستعمرين من المياه على حساب حصة محافظتي الخليل وبيت لحم وعدم انتظام وصول كميات المياه المخصصة، سيؤدي إلى إرباك في جدول توزيع المياه.

بدورها، أعلنت مصلحة مياه محافظة القدس استمرار نقص كميات المياه الموردة من شركة "ميكروت" الإسرائيلية، ما أدى إلى حدوث تشويش على برنامج التوزيع في منطقة الامتياز. ودعت المصلحة المشتركين إلى ترشيد الاستهلاك، مؤكدة بذل جهود لوصول المياه لجميع المشتركين.

وأوضح غنيم بالأرقام: أن نسبة شراء المياه من شركة "ميكروت" للاستخدام المنزلي تصل لـ 55%، بمعدل 75–80 مليون متر مكعب سنويًا للضفة الغربية من أصل 128 مليون الذي له علاقة بالاستهلاك السنوي الخاص بنا، أي ما نسبته 60% من المياه الصالحة للشرب، أما في غزة فلدينا 53 ألف متر مكعب من أصل  330 ألف، والتي تمثل 55% من المياه الصالحة للشرب، لافتًا إلى أن هناك محافظات فلسطينية لا تأخذ المياه من شركة "ميكروت"، كنابلس، وقلقيلية، وطوباس، وهي مناطق تستفيد من الآبار الخاصة بها، أما المحافظات التي تعتمد على شركة "ميكروت"، فإن تخفيض نسبة المياه يسبب انخفاض في ضغط الضخ، ما يمنع وصولها للمناطق البعيدة، بالتالي يخلق أزمة في بعض المناطق، خاصة في الجنوب الذي يعاني من نقص كميات المياه مقارنة بالاستهلاك، إضافة للتعديات والسرقات التي تصل من 12- 15 ألف كوب يوميًا.

وقال غنيم: أن فواتير الشركة الإسرائيلية تخصم شهريًا من عائدات الضرائب الفلسطينية "المقاصة"، عدا عن خصم 120 مليون شيقل سنويًا بدل معالجة مياه صرف صحي، ورغم ذلك فإنه غير متاح لنا الحصول على كمية المياه التي نريدها، ويتحكم الاحتلال في النسبة التي يضخها لنا، فهنالك بعض المناطق تحتاج لـ 5-6 كوب، ولم تحصل عليها رغم تسديد ثمنها، علمًا أنه لا يتم زيادة أي كميات إلا لأسباب يتم دراستها من جانب الاحتلال، بحيث لا يتعارض مع مخططاتهم، ومن هنا يأتي موضوع الحصار المائي، والتضييق على أبناء شعبنا، مؤكدًا أن التقسيمات الجغرافية والحواجز التي خلقها الاحتلال تمنع إنشاء أي نظام مائي مستقل في فلسطين كما هو الحال في العالم الذي يمتلك هذا النظام بإدارة متكاملة ويعمل ضمن مجموعة من المصادر التي تضخ في النظام، لكن هذا الأمر يصعب إنشاؤه في فلسطين نظرًا للناحية الجغرافية وتقطيع الأوصال بين المناطق، فضلا عن أن كميات المياه الموجودة غير كافية لتغطية العجز في المناطق الأخرى.

وأضاف: كافة المشاريع التي نقوم بتنفيذها لها علاقة بإعادة تأهيل الشبكات، من أجل تقليل الفاقد الموجود للحد الأدنى، سواء على مستوى التوزيع داخل مناطق مزودي الخدمات، أو على مستوى الجملة والخطوط الناقلة، علمًا أن الحد الأدنى نسبته تبلغ 50% من الموازنة المائية والتي تذهب للزراعة، الأمر الذي يشكل عبئًا علينا، ومن هنا بدأنا نفكر بالاعتماد على المصادر البديلة لتخفيض التكاليف، عبر إعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة، مشددًا على أن كافة الحلول التي نبحث عنها، والتي تخفف الأزمات، والبدائل بسيطة، تحسن من الواقع المائي، لكن الحل النهائي يكمن في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة، والذهاب نحو الاستفادة من الأحواض والمصادر المائية، والتأسيس لنظام مائي متكامل، مشيرًا أن لدنيا مجموعة أنظمة نسعى لرفع كفاءتها، وكفاءة الشبكات قدر الإمكان، حيث أن هناك تحسن وتطور لافتين للوضع المائي عما كان عليه في السابق قبل 15 عامًا، لكن تبقى هذه القضايا محدودة في ظل وجود الاحتلال، خاصة في السنوات الأربع الأخيرة، حيث أصبح هناك تضييق أكثر، وتوسيع المستعمرات والبنية التحتية للمستعمرات، من خلال تطوير مصادر مائية لها، وهو ما ينعكس علينا سلبًا في التخفيف من الوجود الفلسطيني، وحصره في مساحات معينة وضيقة لاستكمال مشروعهم المتمثل في التهجير، والسيطرة على الضفة بالكامل.

وفي ظل الانقطاع المتكرر للمياه، وتخفيض النسب من الشركة الإسرائيلية، يضطر العديد من المواطنين لشراء صهاريج مياه لتعويض النقص، في ظل الوضع الاقتصادي الصعب.

وقال المواطن علي حمد من رام الله الذي يعمل على صهريج لنقل المياه: أن سعر "تنكة" الماء بسعة 3 متر مكعب يختلف من منطقة لأخرى، فهنالك مناطق يُباع فيها بـ 250 شيقلاً، ويصل في مناطق أخرى لـ 400 شيقل، مشيرًا إلى أن الطلب على الصهاريج يزداد خلال فصل الصيف بسبب الأزمة التي تخلقها الشركة الإسرائيلية من جانب، وإزدياد الطلب على استخدام المياه من قبل المواطنين من جانب آخر.

وفي هذا الشأن، قال غنيم: "إن سلطة المياه رخصت سابقًا عددًا من الصهاريج بهدف ضمان سلامة وجودة المياه التي يتم نقلها، وللتأكد من المصدر الذي يتم تزويد السكان منه، لافتًا إلى أن أنه تم توفير بعض النقاط في منطقة الجنوب ليتم استخدامها في حال حدوث أي عجز، حتى لا تبقى المنازل دون مياه بشكل كامل".

و"قضية المياه" تعد أحد الملفات الرئيسة لقضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول استغلال المياه وفقا لأجندات سياسية تهدد أمن واستقرار المنطقة ككل.

وأكد مدير جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين عبد الرحمن التميمي، أن الموضوع في جذره سياسي بهدف ابتزاز السلطة الوطنية الفلسطينية، خاصة أن اتفاقية أوسلو نصت على أن العلاقة هي بين السلطة الوطنية، وشركة "ميكروت" على أسس تجارية، وليس مع الحكومة الإسرائيلية، بالتالي فإن الأخيرة تستغل هذا البند للضغط السياسي من جهة، ولإيجاد مبرر لزيادة الأسعار، وهو ما جرى في سنوات سابقة، حيث رفعت الشركة الإسرائيلية أسعارها في السوق الفلسطيني، في حال حدوث أمر يفضي إلى ابتزاز إسرائيلي، موضحًا أن بحث مسألة الحقوق المائية تأجل إلى المفاوضات النهائية، وهذه الحقوق تتمثل في حقنا في المياه الجوفية داخل حدود الضفة والقطاع، وحقنا في استغلال مياه نهر الأردن، وحقنا في السيادة على كافة مصادر المياه في دولة فلسطين، وفي المقابل لا تعترف إسرائيل بسيادتنا على مصادر المياه، وتفرض سيطرتها على كل هذه المصادر.

وعن الواقع المائي، قال التميمي: "إن هناك عدة مشاكل، أهمها الزيادة السكانية والتوسع العمراني غير المنضبط وغير المخطط له، وهذا ما دفع الناس الى الهجرة من الريف إلى المدينة، إضافة لتقليل إسرائيل للكميات المعطاة للفلسطينيين، مؤكدًا أن إسرائيل تسعى لتحويلنا إلى زبائن لشركة "ميكروت" من خلال عمليات التخفيض لنسبة المياه، وليس مواطنين لهم الحق في السيطرة على مصادر مياههم، وهو ما يتحدث عنه الإسرائيليون ليل نهار"، موصيًا بضرورة أن يسار هذا الموضوع على المستوى السياسي الدولي، كأحد انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، وليس فقط شأن إسرائيلي- فلسطيني، إضافة لإعداد ملف عربي مشترك (سوري، فلسطيني، أردني، لبناني) حول حق الفلسطينيين في نهر الأردن، والتوجه به للمحاكم الدولية.

ويذكر أن المواثيق والمعاهدات والإعلانات الدولية كفلت الحق في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، كشرط أساسي لعيش حياة كريمة ودعم حقوق الإنسان، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يواصل انتهاك هذا الحق، كغيره من حقوق الفلسطينيين، على رأسها حقهم في الحياة.