بلى، ترك التحرك الجامعي، في عدد غير قليل من البلدان الأوروبية تأثيراً ملموساً ومهماً داخل كل بيت أوروبي، وهو تأثير كشّاف وجوهري للمأساة الفلسطينية التي بدت تمظهراتها الأولى منذ عام 1917، بإعلان وعد بلفور، لقد أفصح هذا الوعد عن رغبة الغرب بالاستيلاء على البلاد الفلسطينية بالقوة العسكرية وليس بأي شيء آخر، لأن كل الادعاءات الغربية والصهيونية تجاه البلاد الفلسطينية هي ادّعاءات وانتحال وكذب ليس على الناس والمؤسسات الدولية وحسب، وإنما هي كذب على التاريخ، وغمط شائه لكل أحداثه وحادثاته.

اليوم، وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، وبعد الإبادة الجماعية التي يقوم بها الإسرائيليون في غزة، والضفة الغربية تحرّكت الهيئات والمؤسسات الدولية، كما تحرّكت الدبلوماسية الغربية على نحو بدأ مراوغًا، ثم مضى إلى الإقرار بالواقع المتمثّل بأن الإسرائيليين يمارسون وحشية غير مسبوقة في غزة والضفة الفلسطينية من أجل التطهير العرقي، والإبادة الجماعية تجاه الشعب الفلسطيني، وأكدوا أن ممارستهم هذه هي صورة جهيرة من صور اقترفوها منذ 76 سنة، وهذا مهم، ولكن الأهم هو هذا التحرك الجامعي في جميع الجامعات في العالم، ولا سيما العالم الغربي، ذلك لأن صوت الطلبة، وعلى اختلاف الأزمنة، كان رافعة مهمة جدًا لبلورة رأي عام ينبع منكل بيت، ومن داخل كل أسرة.

والحق أن جامعات أوروبية، ومنها جامعات فرنسية وانجليزية وبلجيكية وأميركية، وايرلندية اتخذت مواقف مشرّفة قبل سنوات، حين أعلنت مقاطعتها للبضائع والمنتجات الآتية من المستوطنات الإسرائيلية، وأوقفت التعاملات معها، وهذه المواقف كانت مهمة جدًا بالنسبة لمسار التنوير الفكري الرافض للظلم، والمنادي بالحرية "الفردية والجماعية معًا"، بوصفهما جوهر الحياة الإنسانية، وصورتها الأوفى تعبيرا عن تقديس القيم النبيلة الرافضة لكل أشكال الظلموت الواقع على الأفراد والجماعات والشعوب والأمم، ومن المؤسف أننا لم نسلّط الضوء الكافي على قرارات هذه الجامعات العالمية ومواقفها حين ناصرت القضية الفلسطينية بقولها: إن المستوطنات الإسرائيليةغير قانونية لأنها قامت على الأراضي الفلسطينية من دون وجه حق، وإن السلاح الإسرائيلي هو الذي أقام هذه المستوطنات، وإن الدول الغربية هي التي أمدّت هذه المستوطنات بأسباب البقاء، وإنها سكتت على وجودها غير الشرعي.

وقد جاءت قرارات هذه الجامعات الغربية بمقاطعة المستوطنات الإسرائيلية معللة، وليس مبهمة كما اعتادت أن تفعله الدبلوماسية الغربية، فقالت إن قرى ومدن فلسطينية أوذيت، وبعضها مُسحت عن الخريطة الجغرافية مسحًا سجاديًا من أجل إخفاء أي شيء، حتى ولو كان بسيطًا، يتعلق بالعمران والتاريخ الفلسطيني؛ وقالت أيضًا إن المستوطنات الإسرائيلية تتكاثر كالفطر (المسموم طبعًا) على حساب وقائع ومعطيات جغرافية سكانية (أرضًا وبشرًا) هي في جوهرها فلسطينية، وإن القوة الإسرائيلية المتوحشة هي وحدها من مكّنت المستوطنين من إقامة هذه المستوطنات، والأدهى أن هؤلاء المستوطنين تملكوا السلاح، فراحوا يخوّفون به أهالي القرى والمدن الفلسطينية بأن مصيرهم هو المصير نفسه الذي لاقاه الفلسطينيون الذين طردوا أو قتلوا من قراهم، وبعض أجزاء من مدنهم؟

وقالت هذه الجامعات أيضًا: إن الفلسطينيين حرموا من استثمار أراضيهم في الزراعة والصناعة والسياحة بسبب التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الفلسطينية، وقطاع غزة، والأغوار، ومدينة أريحا، والأكثر أهمية هو ما قالته الجامعات الغربية أيضًا بأنّ هذه المستوطنات محروسة بقوة الجيش الإسرائيلي، وليست محروسة فقط بالأسلحة التي توزّع على المستوطنين الذين شكّلوا تنظيمات عسكرية سمّوها (فتيان التلال) و(حرس الحدود)، ولعل ما فعله أحد وزراء الحكومة الإسرائيلية (ابن غفير) من توزيع حوالي 100 ألف بندقية على 100 ألف مستوطن دفعة واحدة، هو تمثيل لحالة العسكرتارية التي تلف المجتمع الإسرائيلي كله، بما في ذلك المستوطنات التي التهمت الأراضي الفلسطينية، وطردت الفلسطينيين، بعد أن ضيّقت عليهم كل سبل الحياة.

الجامعات الغربية، ومنها الجامعات الإسبانية الـ 50 التي أعلنت اليوم مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، ولا سيما التعاون العلمي (نظريا وتطبيقياً)، والتصريح بأنّ ما يحدث في قطاع غزة والضفة الفلسطينية هو تطهير عرقي، وإبادة جماعية، وأنّ أشكالها متعددة ومتجلية عبر التهجير والتشريد والتضييق والاعتقال ومنع التنقّل، وتحديد الإقامة، وشلّ الحركة والنشاط الإنساني على اختلاف صوره.

التعويل على ما تقوم به الجامعات الغربية مهم جدًا، ونرجو التفاعل معه تأييدًا، لأنّ صوت هؤلاء  الطلبة  وأساتذتهم هو صوت العقل الذي لا يحابي ولا يداهن ولا يتورّط بالتلفيق على الرغم من التهديدات الإدارية التي أرادت تخويف الطلبة كي يفضّوا اعتصاماتهم، وعلى الرغم أيضًا من اعتقال الآلاف منهم تحت تهم مختلفة، منها التطرّف والمغالاة، ومعاداة السامية.

لقد كشفت الجامعات الغربية، عن مرآة مهمة وجوهرية، وتوضّحت فيها ترسيمات مهمة وجوهرية أيضًا، ومنها أنها اعادت القضية الفلسطينية إلى الخطأ الأخلاقي الغربي الأولاني المتمثّل بـ (وعد بلفور)، ثمّ إدخال هذا الوعد إلى عصبة الأمم المتحدة عام 1922، ونقله من أن يبقى وعدًا انجليزيًا إلى أن يصير قرارًا دوليًا، حين جعلته في صلب قرارات الانتداب على البلاد العربية، التي توازعتها بريطانيا وفرنسا، بعد انفراط عقد الهيمنة العثمانية، ثم إنّ اعتصامات طلاب الجامعات الغربية في هذه الآونة، أعادت العالم إلى السؤال المركزي الأساسي وفحواه: لماذا هذا الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما هي أولياته وبذوره الجنينية، ولماذا يقوم الإسرائيليون بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، ولماذا يقاوم الفلسطينيون ويواجهون الظلم الإسرائيلي بهذا العناد الإنساني المستمر والمتطور، رغم أن القوة الإسرائيلية الغاشمة تقتل وتعتقل وتطرد وتشرّد وتضيّق سبل الحياة عليهم؛ هذا السؤال غدًا سؤالاً يحوّم داخل كل بيت أوروبي، بل داخل كل مؤسسة ومنظمة أوروبية، بل داخل كل نفس أوروبية شريفة تذوّقت طعوم النبل والحق والخير والجمال.

إنّ الحرية هي راية من رايات طلبة الجامعات، ومادة درسية هي من أهم المعطيات القولية والنظرية التي تود الجامعات وتسعى إلى أن تكون طرائق لمعرفة الحياة الجميلة. أي أن تكون الحرية صيغة عيش للأفراد والجماعات والشعوب، ولهذا وبه، تكمن أهمية هذه الاعتصامات الجامعية، ولا سيما أن مرجعيتها هي العلوم والمعارف، وسلوكها هو الحرية وما فيها من قيم إنسانية هي غاية في النبل.

والحق أن مناداة الطلبة وأساتذتهم، بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، في هذه الآونة، هي مناداة بالحرية كيما يكون هذا العالم عالمًا للتنوير، وبقعة أرجوانية ساحرة للقيم الإنسانية النبيلة، ولهذا نعول عليها كثيرًا كيما تصير المسافة إلى الحق أقرب الأقرب.