الصراع التاريخي على أرض فلسطين ليس مجرد صراع سياسي بين دولتين متجاورتين، أو مجرد صراع بين جماعتين اثنتين تعيشان على أرض واحدة.إنه صراع ممتد في الزمن، ويطال في عناصره التاريخ والحضارة والأرض والشعب معاً.وكثيراً ما كان المناضلون الفلسطينيون طليعة النضال العربي في مواجهة الاستعمار الحديث منذ ستة 1876 فصاعداً، أي منذ بدايات قيام المستوطنات اليهودية في فلسطين، مع العلم ان أول مستوطنة أقامها الصهيونيون، واستمرت في قيد الحياة،هي مستوطنة "ريشون لتسيون" أي الأولى لصهيون التي أُسست على أراضي قرية عيون قارة العربية. وقد سطر الفلسطينيون، طوال قرن وربع القرن، ملاحم مشهورة من البطولة والفداء في سبيل أرضهم وحريتهم واستقلالهم. وفي خضم هذا النضال الطويل سقط كثير من الشهداء المثقفين جنباً إلى جنب مع بقية المناضلين ولعل الشاعر عبد الرحيم محمود، شهيد معركة الشجرة الذي رحل في 13/7/1948، كان أشهر هؤلاء المثقفين ممن ظلت قصائدهم تدوي في أسماع الناس، وهو القائل:

سأحمل روحي على راحتي           وأُلقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تُــعز الصديـــق              وإمــــا ممــــات يغيظ العدا

كان المناضلون يسقطون، بالفعل، في مهاوي الردى، وكان الشعراء والكُتّاب يعيدون صوغ الهوية الوطنية الفلسطينية، ويقيمون مثالاً لالتحام الشعب بالأرض وبالتاريخ معاً لذلك ليس من المستغرب ان تضع اسرائيل، في جملة أهدافها، تفكيك ذلك الارتباط بين الفلسطيني وأرضه وتاريخه. ولهذا انصبت عملياتها الارهابية، في إحدى المراحل، على المثقفين الفلسطينيين الذين كانوا يعيدون سيرة عبد الرحيم، ويستشهدون إلى جانب بقية المناضلين.

من الشاعر عبد الرحيم محمود إلى الشاعر علي فودة، إلى ما بعدهما من المثقفين وهم كثر، ثمة قافلة من الأسماء المرموقة اغتالتها الأيدي الصهيونية المرتجفة ، فقد كانت الثقافة هي الميدان الذي طالما ذُعرت اسرائيل من المنازلة فيه. ففي هذا الميدان يظهر جلياً مدى تهافت مقولات الصهيونية وتزويرها للتاريخ. وفي هذا الميدان ايضاً يجري فضح ما استقرت عليه الدعاية الصهيونية الزائفة. وفي هذا الميدان كهوية انسانية حضارية مناقضة تماماً للهوية العنصرية الصهيونية. وفي هذا الميدان سقط عسان كنفاني في 8/7/1972 بعدما اصدر في بيروت ملحق "فلسطين" سنة 1964، ثم أصدر في بيروت نفسها مجلة "الهدف" سنة 1969، فصار هدفاً للاستخبارات الاسرائيلية.وبعده اغتال الموساد الشاعر كمال ناصر (الى جانب رفيقيه كمال عدوان ومحمد يوسف النجار) في 10/4/1973 بعدما أصدر في بيروت أول عدد من مجلة "فلسطين الثورة" في 28/6/1972. وقبل كمال ناصر اغتال الموساد وائل زعيتر في روما في 16/10/1972 ومحمود الهمشري في باريس في 8/12/1972 (توفي متأثراً بجروحه في 9/1/1973) وباسل كبيسى العراقي المناضل في سبيل فلسطين في باريس ايضا في 6/4/1973. وحاول الموساد اغتيال انيس صايغ مدير مركز الابحاث في بيروت بطرد ناسف في 19/7/1972، وبسام ابو شريف رئيس تحرير مجلة "الهدف" في 25/7/1972 وتابع الموساد عملياته فتمكن من اغتيال ماجد ابو شرار في روما في 5/10/1981 ونجح قبل ذلك في اغتيال محمد بو دية في باريس في حزيران 1973 وهو الجزائري المقاتل في سبيل قضية فلسطين، ولم تتورع اسرائيل عن اسقاط طائرة مدنية ليبية فوق سيناء في 21/2/1973، فراح فيها المناضل الليبي صالح مسعود ابو يصير صاحب كتاب "جهاد شعب فلسطين" الذي اصبح واحداً من المراجع الاساسية في تاريخ فلسطين المعاصر.

 لم تقتصر قافلة شهداء فلسطين ممن كتبوا بدمائهم على هؤلاء وحدهم، فهناك قوافل اخرى سقط كتابها ومثقفوها برصاص غير اسرائيلي هذه المرة فقد اغتيل الكاتب محمود صالح في باريس في 3/1/1977 على يد مجموعة الاغتيال التابعة لصبري البنا(ابو نضال). ثم جرى اغتيال سعيد حمامي في لندن في 4/1/1978، وعز الدين القلق في باريس في 3/8/1978 ونعيم خضر في بروكسيل في 1/6/1981 علاوة على حنا مقبل في قبرص في ثمانينيات القرن العشرين وميشال النمري في اليونان.

 إن هذه السبحة المبدعة من الكتاب والشعراء والمثقفين التي اراد الموساد وعملاؤه فرط حباتها، إنما كان الهدف منها استكمال خطة اسرائيل في القضاء على هوية الشعب الفلسطيني، وعلى صانعي روحه الوطنية المتوثبة، وعلى صائغي الفخار الكنعاني الذين علموا العالم كيف تأتلف العناصر الاربعة، اي التراب، والماء، والهواء، والنار، في إناء واحد هو الشعب الفلسطيني المنصهر في وحدة تاريخية واحدة.