رامي سمارة

"تنساش أخوك"، أمانة ألقتها عائشة فيومي، على كاهل نجلها حسن، قبل أن ترحل إلى بارئها، لتلتحق بمن أوصت بعدم إسقاطه من الذاكرة.

هي لم تعنِ شخصاً على قيد الحياة، فمرارة فراقه لم تغادرها حتى فارقت هي، وألم عدم وداع جسده لازمها إلى أن ودعوا جسدها هي.

الوصية أصبح عمرها اليوم 12 عاماً منذ أن رحلت صاحبتها عائشة، والموصى عليه أنيس كان ليصبح في سن الـ79 لولا أنه ارتقى في سجون الاحتلال شهيداً، والوصي حسن البالغ من العمر 74 عاماً، والذي يقتفي أثراً كالسراب؛ أوصى بالوصية أبناءه.

في عام 1980، أي بعد اثني عشر عامًا من اعتقال الشهيد أنيس دولة، شارك ومجموعة من أسرى "عسقلان" في إضراب مفتوح عن الطعام دام لأكثر من شهر، تضامناً مع إضراب "نفحة" الشهير.

وبعد يومين من فك الإضراب، فقد أنيس الوعي بينما كان يمشي في ساحة السجن، سقط ونُقل إلى عيادة سجن "عسقلان"، وبعد ساعات قليلة، أعلنت إدارة السجن أنه فارق الحياة.

واليوم وبعد 43 عاماً، لا تمتلك عائلة دولة أي معلومة مؤكدة عما كان، وبشأن ما سيكون، فظروف وفاته غامضة غموض جثمانه.

يشرح حسن دولة: "حصلنا على ورقتين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الأولى تشير إلى أن أنيس فارق الحياة في معتقل عسقلان في 31 آب/ أغسطس 1980، بينما الأخرى تدعي أنه أُطلق سراحه في اليوم ذاته، وبذلك لم يعد اسمه مدرجًا في سجلات السجن، وليس هناك أي دليل على مكان جثمانه".

ويتساءل حسن: "حسب ورقة الصليب الأحمر، فإن شقيقي فارق الحياة داخل المعتقل، فكيف تدعي سلطات الاحتلال أن جثمانه قد اختفى؟، والورقة الأخرى تشير إلى أنه تم إطلاق سراحه، إلى أين تم نقله إذن؟ وهل توفي وبقي داخل المعتقل أو نقلوه إلى مكان آخر؟ لماذا هذا التضارب في تقارير الصليب الأحمر؟ عدا ذلك كله، لماذا أخبرت سلطات الاحتلال رئيس بلدية قلقيلية آنذاك الحاج أمين النصر نيتها تسليم جثمانه، وعدلت عن القرار لاحقًا بعدما قام أهالي المدينة بحفر قبره نيابة عنا لتواجدنا في الخارج؟".

ويضيف إلى حالة الغموض التي تكتنف مصير أنيس دولة، رسالة تعود إلى عام 1982 صدرت عن الصليب الأحمر، ورد فيها: "نحيطكم علمًا أننا لم نجد في ملفاتنا رقم هوية أنيس، أو رقم سجنه الذي يمكننا المساعدة في البحث مع مصلحة السجون. بالإضافة إلى ذلك، نحن عثرنا في ملفاتنا الداخلية على تقرير تشريح الجثة صادر من وزارة الصحة الإسرائيلية، معهد الطب العدلي بتاريخ 1982/5/3"..

وهذا يضيف تساؤلات جديدة إلى تلك التي لم تكُفَّ عن القفز إلى ذهن حسن، فما دواعي تشريح جثمان شقيقه أنيس بعد عامين على استشهاده، وهل سرق الاحتلال أعضاءه ونقلها إلى جنوده المصابين في المعارك؟.

ولما راحت الأعمار تتقدم والقضية تراوح مكانها، نقل حسن أمانة والدته الثقيلة إلى أبنائه، وأوصاهم بعدم نسيان عمهم البطل، فربما يحالفهم الحظ في أن يُلقوا نظرة الوداع الأخيرة عليه ويكرموه بالدفن، ويقرؤوا له القرآن ويضعوا الورود على ضريحه، وهي أبسط الحقوق التي حُرمت منها أمه وقد يُحرم منها هو. 

وعقدت محكمة الاحتلال العليا عام 2010 مداولات بعد إعادة فتح ملف الشهيد أنيس دولة، وزعم جيش الاحتلال في حينه أنه لا يملك أية معلومات عن جثمان أنيس، وبهذا أُغلق الملف بداعي استنفاد الوسائل "القانونية" المتاحة كافة، وأصبح من الجثامين التي لا تعترف إسرائيل بوجودها.

وأعلنت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين، أن سلطات الاحتلال تواصل احتجاز جثامين 398 شهيداً، منهم 256 شهيداً في "مقابر الأرقام"، و142 شهيدًا محتجزًا في ثلاجات منذ عودة سياسة احتجاز الجثامين عام 2015، بينهم 14 طفلاً شهيدًا، و5 شهيدات.

وأوضحت اللجنة في بيان لها، لمناسبة اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة، أن هناك 75 مواطناً مفقودة آثارهم منذ بداية سنوات الاحتلال.

ومن بين الشهداء المحتجزة جثامينهم 11 شهيدًا من شهداء الحركة الأسيرة، أقدمهم الشهيد أنيس دولة، وآخرهم الأسير الشهيد خضر عدنان الذي استُشهد في شهر أيار/ مايو الماضي، بعد إضراب عن الطعام استمر لمدة 86 يومًا.