هناك أعمال أدبية خالدة لا تموت لما تطرحه من أسئلة في تقنياتها السردية وفيما تقدمه للقارئ من أفكار تبدو معاصرة اكثر من بعض الأعمال الأدبية الحديثة على الرغم من مرور عقود بل مئات السنين على ولادتها مثل "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري و "النبي" لجبران خليل جبران و "الثلاثية" لنجيب محفوظ و "النداهة" ليوسف إدريس وأعمال شعرية منذ "المعلقات" حتى "الجدارية" لدرويش، كما أن هناك روايات وأعمالاً ادبية خالدة في لغات عالمية عديدة تنافس في حداثتها وعصرنتها اعمالاً حديثة جدا، وقراءة رواية من هذه الروايات هي رحلة ممتعة تحرك خيال القارئ وتحمله في صفحاتها وفصولها الى زمان الأحداث وأماكنها وتربطه بأبطال الرواية فيعيش معهم ويتحاور معهم مثل رواية "أنا كارنينا" لتولستوي ورواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي ورواية "دون كيخوته" أو "دون كيشوت" لميغيل دي سرفانتيس وروايات كثيرة من الأدب الروسي والإيطالي والإنجليزي والفرنسي والألماني والإسباني والياباني والهندي والكولومبي والبرازيلي.
فوجئت عندما قرأت قبل سنوات أن رواية "دون كيخوته" كتبها سرفانتيس بالألخاميدية أي كتابة اللغة الإسبانية بحروف عربية وتم نقلها الى اللغة الإسبانية بواسطة المورسكي الذي ذكره سرفانتيس في روايته في حين يؤكد باحثون غربيون أن المورسكي الغرناطي ميكال دي لونا وهو احد أشهر الكتاب والمترجمين الذين عاشوا في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر هو من نقلها الى اللغة الإسبانية، ودخلت شخصية "سانشو" البطل الثاني في هذه الرواية عالم الأدب والشهرة ودعت الباحثين لدراستها بل بحثوا حتى عن القرية التي ولد فيها سانشو فوجدوا أنها قرية اسكيفياس قرب طليطلة ووجدوا وثيقة تعميد سانشو في كنيستها.
كان النص الأدبي الراقي، رواية او ملحمة او قصيدة هو اللون البارز في الحياة الثقافية عند الأديب والمبدع والقارئ والمثقف إلا أن التكنولوجيا العصرية التي طغت على حياة الناس في زمن الفيسبوك والتويتر والتيك توك والإنستغرام وغيرها أبعدت الكثيرين من أبناء الجيل الجديد عن قراءة الكتب والروايات والملاحم والقصائد والسير الذاتية والأبحاث النقدية وغيرها كما أن عدداً من المبدعين ومن أدباء النص الأدبي تحولوا الى كتابة الفقرات القصيرة التي تشبه التوقيعات في عصر الانحطاط وانقطع بعض الأدباء عن كتابة الرواية والقصة والمقالة وصاروا يكتبون الفقرات القصيرة جدا في جوالاتهم وفي أجهزتهم الذكية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وجاراهم في هذا اللون أناس لا يتقنون اللغة، إملاء ونحواً وصرفاً، ولا يعرفون ألف باء النص الأدبي فاختلط الحابل بالنابل فالكل كتاب والكل أدباء والكل معلقون سياسيون والكل محللون اجتماعيون والويل لكتابة الهمزة وللفاعل وللمفعول به وللجار والمجرور وللمضارع المعتل الآخر، وفي هذا الواقع الصعب البائس ضاعت الطاسة وتسللت الأمية والسطحية لما نقرأه، وهذا ما دعا الأديب والفيلسوف والناقد الأدبي والروائي الإيطالي امبرتو إيكو أن يكتب: "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم اسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثل من يحمل جائزة نوبل... إنه غزو البلهاء" والأفضل أن نقول هو غزو الأمية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها