أبناء شعبنا الفلسطيني الصّامد في لبنان،

لم نعتد نحنُ الفلسطينيين قط أن تكون أيامنا عاديةً، فكل يوم كان حدثًا ومواجهةً وانتصارًا أو نكبة، ولكن في ظل تزاحم الأحداث في الذاكرة الفلسطينية حتى اختلاطها، يبقى تاريخ اليوم حاضرًا أبدًا بأدق تفاصيله وأشملها. ففي مثل هذا اليوم، ١١-١١-٢٠٠٤، ارتقى قائدنا ورمزنا ومفجّر ثورتنا العظيمة ياسر عرفات "أبو عمّار" إلى جوار ربّه شهيدًا كما أراد دائمًا.  

 

لم نعي في هذا اليوم الذي توقف فيه الوقت والتقويم أنَّ ابتساماته وقُبلاته التي ودَّعنا بها متوجّهًا في رحلته ستكون الأخيرة، ظنناهُ يعود إلينا كما في كلِّ مرة بطلاً جبلاً لا تهزه الرياح، فعاد إلينا أكثر من ذلك بطولةً، عاد أسطورةً خالدةً زُرعت في ذاكرة ووجدان الأجيال، وبقي حاضرًا فينا وبيننا نستقي معاني البطولة من قيمه وسجاياه.

 

أبناء شعبنا الفلسطيني البطل،

١٧ عامًا مضَت على استشهاد رمزنا وقائد مسيرتنا ياسر عرفات على يد الاحتلال الإسرائيلي وأعوانه. يومها اعتقد العدو وأعوانه أنَّ القضاء على أبو عمار هو اغتيالٌ عاديٌّ لقائدٍ من شأنه تسهيل عملية الانقضاض على حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية وتمزيقها، وإطفاء وهج الثورة وإحباط العزائم وتقويض تحقيق مشروعنا الوطني ومواصلة مسيرتنا وخلق خلافات داخلية تُثبط كفاحنا الوطني وتمزق وحدتنا الفلسطينية، لكنَّ هؤلاء نسوا قراءة التاريخ ونسوا أنَّ أبا عمار لم يكن يومًا عاديًا، وأن" فتح" لم تكن إلا استثنائيةً دائمًا. 

 

إذ لم تكن عظمة الشهيد ياسر عرفات في تحقيقه البطولات الآنية مُتَّكئًا على مقدّرات وقوافل من الجيش والعتاد، بل إنَّ عظمته وبراعته كمنت في تلك القدرة العجيبة على تجاوز كل العقبات، بل وتحويلها لعوامل منعة وقوة واستمرارية لابتكار المعجزات وصناعة التاريخ الفلسطيني الخالد، وترسيخ الأسس والمبادئ والتجارب الثورية والسياسية لضمان ديمومة الثورة. 

 

 فهو الذي أسس وثلة من رفاقه الرجال الرجال حركتنا الرائدة ما بين عامي ١٩٥٧ و١٩٥٨، وفجّر شرارتها في الفاتح من كانون الثاني عام ١٩٦٥، وأراد لها ألا تكون حركة عابرة، فجعل منها حركةً للشعب الفلسطيني، ومدرسةً ترسخ المُنطلقات والمبادئ والأهداف الثورية، وعلى رأسها استقلالية القرار الوطني الفلسطيني ورفض الوصاية مهما كانت الضغوطات السياسية والأمنية، هذه المدرسة التي تتلمذ فيها أجيال من القادة الذين تشبّعوا بنهج وتجربة ياسر عرفات، لتحمل إرثها الأجيال جيلاً بعد جيل، وتبقى متّقدةً مستمرةً حتى النصر والتحرير، وتبقى أبدًا عصيةً على التبعية والتدجين. 

 

لقد أتقن ياسر عرفات تطويع الواقع العنيد لإرادته، وامتلك من الحكمة ونضوج التجربة الميدانية ما أهله لاتخاذ القرارت الصعبة في أحلك الظروف وأكثرها تعقيدًا، ليخلق من وهن اللحظة اشتدادَ عود الفكرة واقترابًا أكثر نحو تحقيق الحلم والهدف. فعَلَها في الكرامة ليمنع وأد فكرة الثّورة، وفي حصار بيروت ليسطر ملحمةً في الصمود وإدارة المعركة السياسية والعسكرية، وفي أحداث طرابلس محافظًا على الوحدة والجسد الفتحاوي، وبعد خروج الثورة من لبنان إلى العواصم العربية، مُثبتًا في كل المحطات أنه الرقم الصعب وأن "فتح" حركة جذورها ضاربةٌ في الأرض وأغصانها تعانق السماء. 

 

اختزل ياسر عرفات في كوفيته وملامحه ومسيرته تفاصيلَ الوطن، حتى سكنته فلسطين، وصارت رفيقة دربه حيثما حلَّ وارتحل، وأينما شيّد أحد المتاريس أو حفرَ خندقًا أو ألقى كلمةً على مسمع المجتمع الدولي. 

 

كما تمكّن ياسر عرفات من صناعة قاعدة عالمية لحركة "فتح" و"م.ت.ف" عبر استقطاب دعم حركات التحرر العالمي وترسيخ فكرة أنَّ الاستعمار والصهيونية كلاهما وجهان لعملة واحدة وبالتالي يجسّدان عدوًا أوحد للشعوب المضطهدة المحتلة أرضها. 

ولأنه كان قارئًا مُجيدًا للسياسة الدولية مُدركًا لأهمية العمل السياسي في دعم منجزات الثورة وتعزيز حضورها العربي والدولي، فقد حرص ياسر عرفات على استثمار الكفاح سياسيًا، ونسج التحالفات التي تعزز مكانة الثورة ومنظمة التحرير سواءً أكانت مع دول أو حركات تحرر عالمية، جائبًا الدول والقارات من أجل كسب الدعم وتوسيع معسكر الأصدقاء. كما لم يتوانَ عن الإدلاء بالتصريحات للوسائل الإعلامية التي كانت تتهافت للقائه بعد ما حققه من مجد وعظمة في الساحة العالمية إيمانًا منه بأهمية الإعلام في إيصال الصوت الفلسطيني والرواية الفلسطينية التاريخية إلى العالم. 

 

عاد ياسر عرفات إلى أرض الوطن قائدًا رئيسًا للشعب والأرض والسلطة والمؤسسات، وزعيمًا لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، وبقي مسكونًا بحلم بناء الدولة الفلسطينية ذات السيادة التي أراد لها أن تُنجز في حياته، باذلاً في سبيلها كل ما استطاع. ورغم حصاره وتضييق الخناق عليه لإرغامه على الاستسلام فقد كان صموده ورفاقه في المقاطعة صمودًا أسطوريًّا رغم تمترس الدبابات ودق الجرافات جدران المكان ونيران القنّاصة وشح الطعام، وانقطاع المياه والكهرباء، والحرب النفسية، ليردّد بكبرياء وشموخ مقولته الشهيرة: (يريدوني إمّا أسيرًا، وإمّا طريدًا، وإمّا قتيلاً.. لأ أنا بقول لهم شهيدًا.. شهيدًا.. شهيدًا..) ثم كان للفدائي الأول ما أرادت نفسهُ. 

 

لقد جسّد القائد الرمز ياسر عرفات مدرسةً في التحدي والصلابة والتضحية والإيثار وتقديس الوحدة الوطنية، وما زال بروحه الحاضرة فينا الدافع والمحفّز لنا اليوم أكثر من أي وقت مضى على تصعيد مقاومتنا بكل أشكالها الميدانية والشعبية والسياسية والقانونية بشكل يومي وفي كل مواقع المواجهة مع منظومة الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه وحلفائهم.

 

وإنّنا اليوم إذ نُحيي الذكرى السابعة عشرة لاستشهاد قائدنا الوطني المؤسّس، لا نخلّد ذكراه الراسخة في قلوبنا وعقول أجيالنا فحسب، وإنما نجدّد القسم له، بأن "عهدنا استمرار".. هو استمرار للنهج والمبادئ النضالية الثورية التي أرسى دعائمَها، واستمرار لصون القرار الوطني الفلسطيني المستقل الذي تركه أمانةً بين أيدينا، واستمرار بمواصلة مسيرة كفاحه الوطني بالتفاف واعتزاز وثقة كاملة بخليفته المؤتمن على ثوابتنا وقضيتنا ومصيرنا، سيادة رئيس دولة فلسطين القائد العام لحركة "فتح" محمود عبّاس وهو يخوض بشجاعة وعزيمة معركة تحقيق أهداف مشروعنا الوطني، وعلى رأسها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة شعبنا الفلسطيني اللاجئ إلى وطنه. 

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار 

والحرية لأسرانا الأبطال 

والشفاء لجرحانا الميامين 

 والعهد أن نبقى على العهدِ مستمرين وللأمانة حافِظين 

وإنها لثورةٌ حتّى النّصر

حركة "فتح" - إقليم لبنان