هناك شخصيات تفرض عليك التوقف أمامها، بغض النظر إن عرفتها أو لم تعرفها، حتى في رحيلها تستدعيك لإنصافها، وتسليط الضوء على تجربتها، ومنحها بعض ما تستحق من الوفاء الوطني والقومي، من بين هؤلاء الرموز المفكر الاقتصادي القومي، خير الدين حسيب العراقي العربي، المسكون بالانتماء لهويته وثقافته العروبية، مؤسس ومدير عام مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1975. 
ترجل المناضل والمثقف المفكر القومي يوم الجمعة الموافق الماضي عن عمر يناهز 92 عامًا في العاصمة العربية، بيروت التي اختارها عنوانًا لانطلاقته لمشروعه القومي، ومقرًا دائمًا لإقامته. وكان رجل الاقتصاد البارع ولد في مدينة الموصل في آب/اغسطس 1929، وبعد 15 يومًا على ولادته رحل والده، وتولاه جده لأبيه بالرعاية، وكان رجلًا ميسورًا مما هيأ للطفل والفتى خير الدين طفولة مميزة. لا سيما وأنه كان مقربًا من جده، ويحضر مجالسه، وبات وسيطًا بينه وبين باقي أعمامه وأبنائهم. بيد أن مرض جده لاحقًا استنزف ممتلكات العائلة، وبيعت لتغطية نفقات العلاج، وتسديد الالتزامات الأسرية الأخرى. 
مع نجاحه في الثانوية كان جده قد توفاه الله، فاضطر للبحث عن عمل لإعالة نفسه وعائلته، ثم بعد حصوله على شهادته الجامعية الأولى في بغداد، أكمل دراسته في جامعة كامبريدج في بريطانيا تخصص مالية عامة. وبعد العودة للوطن العراقي مارس مهنة التدريس محاضرًا في جامعة بغداد في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ثم عين محافظًا للبنك المركزي العراقي بدرجة وزير، وساهم في عملية تأميم النفط العراقي.
لكن القومي العربي كان حلمه أوسع وأعمق من العمل الوظيفي التقليدي والمنصب الرفيع، فترك العراق متوجها لبيروت عاصمة الثقافة والفكر العربي عام 1974، وكانت خطته معدة سلفًا، حيث باشر العمل على تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية عام 1975، وتحت رئاسته وإشرافه أصدر ونشر ما يزيد عن 500 دراسة وكتاب، التي جلها عالجت هموم وقضايا الوحدة العربية، والمشروع القومي العربي، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة بالهوية العربية. فضلًا عن أنه أصدر عن المركز مجلة المستقبل الشهرية من عام 1978 حتى آب/اغسطس2007، وكانت من المجلات المهمة، ومازالت بما صدر منها من أعداد (342 عددًا) تشكل مرجعًا مهما للباحثين والدارسين حول القضايا العربية في المجالات المختلفة. 
لم يكتف الراحل حسيب بالإنتاج المعرفي للتأصيل للمشروع القومي العربي، لذا بادر مع نخبة من المثقفين والمفكرين والقادة السياسيين السابقين من وزراء ورؤساء وزارات بتأسيس "المؤتمر القومي العربي" عام 1990، الذي يضم في عضويته حوالي 800 عضو، وتولى فيه ذات مرة منصب الأمين العام بعد تأسيسه. كما أنه ساهم بدور أساس في إقامة "المؤتمر القومي الإسلامي" و"المنظمة العربية لحقوق الإنسان" و"المنظمة العربية للترجمة" و"المنظمة العربية لمكافحة الفساد" التي تأسست 2004.
من النظرة السريعة لسيرته النبيلة وتجربته الرائدة، نلاحظ أنه سعى بكل ما يملك من مكانة علمية، وإمكانيات مادية، ومثابرة شخصية على خوض غمار الدفاع عن الأمة العربية، ومشروعها القومي النهضوي، والسعي لوقف حالة الانهيار والتراجع، ونشر العلم والمعرفة، وتسليط الضوء على الأزمات التي تعيشها شعوب الأمة من المحيط إلى الخليج. كما وحاول جاهدًا الربط الجدلي بين النظرية والتطبيق مع تأسيس المؤتمر القومي العربي، والمنظمات الأخرى. 
لكن تجربته على أهميتها لم تحقق مبتغاها، رغم نجاح شقها المعرفي والثقافي، إلا أنه وللأسف وقع أسير الجغرافيا السياسية، التي أثرت على تجربته ومستقبلها، ليس هذا فحسب، إنما مع تأسيس المؤتمر القومي العربي تعثرت خطواته مع ربط التجربة مع بعض الأنظمة العربية، فبقيت تجارب المؤتمرات ذات طابع شكلاني، ولم ترقَ لمستوى الطموح والتحديات المطروحة على الأمة ودولها. 
بيد أن النواقص في تجربة رجل القومية العربية خير الدين حسيب، لم ولن تغبنه حقه، ومكانته المميزة، وستبقى تجربته نموذجًا للريادة والعطاء والدراسة، لا سيما وأنه حفر اسمه في صفحات المجد العربية بقوة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل أو يقفز عن اسم المبدع العراقي العربي الباسل، الذي نذر نفسه للقومية العربية. رحمة الله عليه ولروحه السلام.